عملية إنقاذ من موت محقق

موقف بطولي قام به رجال الجيش العراقي بإنقاذ حياة طفلة لم تتجاوز الـ 4 سنوات بعد أن قتل الدواعش كل أفراد عائلتها في الموصل

أسرة‭ ‬يونيباث

في ذروة‭ ‬معارك‭ ‬تحرير‭ ‬الموصل‭ ‬ووصول‭ ‬جحافل‭ ‬اللواء‭ ‬الآلي‭ ‬36‭ ‬التابع‭ ‬للفرقة‭ ‬المدرعة‭ ‬التاسعة‭ ‬إلى‭ ‬خط‭ ‬داعش‭ ‬الدفاعي،‭ ‬نشر‭ ‬الإرهابيون‭ ‬القناصين‭ ‬والمفخخات‭ ‬وفرق‭ ‬الانتحاريين‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬متعدد‭ ‬الطوابق‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الزنجيلي‭. ‬كان‭ ‬موقع‭ ‬المستشفى‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬طرق‭ ‬المدينة،‭ ‬مما‭ ‬مكن‭ ‬الإرهابيين‭ ‬من‭ ‬إعاقة‭ ‬تقدم‭ ‬القوات‭ ‬العراقية‭ ‬واستهداف‭ ‬المدنيين‭ ‬الفارين‭ ‬من‭ ‬مناطق‭ ‬القتال‭.‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الأثناء،‭ ‬رصد‭ ‬الجنود‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬150‭ ‬إلى‭ ‬200‭ ‬مدني‭ – ‬معظمهم‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬والأطفال‭ ‬–‭ ‬يحتمون‭ ‬بجدران‭ ‬الأزقة‭ ‬الضيقة‭ ‬متجهين‭ ‬نحو‭ ‬موقع‭ ‬القوة‭. ‬أصدر‭ ‬آمر‭ ‬الوحدات‭ ‬العسكرية‭ ‬الأوامر‭ ‬بسرعة‭: ‬أوقفوا‭ ‬إطلاق‭ ‬النار‭! ‬لإفساح‭ ‬الطريق‭ ‬للنازحين‭!‬

لكن‭ ‬الدواعش‭ ‬لايملكون‭ ‬أخلاق‭ ‬الرجال‭ ‬ولايكترثون‭ ‬لحياة‭ ‬الأبرياء،‭ ‬إذ‭ ‬فتحوا‭ ‬نيران‭ ‬أسلحتهم‭ ‬من‭ ‬ثقوب‭ ‬القناصين‭ ‬ومن‭ ‬مخابئهم‭ ‬على‭ ‬العوائل‭ ‬الهاربة‭ ‬من‭ ‬جحيم‭ ‬المعركة‭ ‬بلا‭ ‬رحمة‭ ‬وفي‭ ‬غضون‭ ‬دقائق‭ ‬أردوا‭ ‬جميع‭ ‬المدنيين‭ ‬قتلى‭.‬

‭”‬كانت‭ ‬صدمتنا‭ ‬كبيرة‭ ‬حين‭ ‬فتح‭ ‬الإرهابيون‭ ‬نيران‭ ‬أسلحتهم‭ ‬لقتل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأبرياء‭ ‬العزل‭.” ‬هذا‭ ‬ماقاله‭ ‬العميد‭ ‬مصطفى‭ ‬صباح‭ ‬العزاوي،‭ ‬آمر‭ ‬اللواء‭ ‬36‭ ‬المدرع،‭ ‬وهو‭ ‬يتذكر‭ ‬تفاصيل‭ ‬تلك‭ ‬الجريمة‭. ‬

بعد‭ ‬نصف‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬وقوع‭ ‬الجريمة،‭ ‬كان‭ ‬العميد‭ ‬مصطفى‭ ‬العزاوي‭ ‬ورجاله‭ ‬يراقبون‭ ‬الموقف‭ ‬ورصدوا‭ ‬وجود‭ ‬طفلة‭ ‬بين‭ ‬جثث‭ ‬القتلى‭. ‬كانت‭ ‬وحيدة‭ ‬بين‭ ‬القتلى‭ ‬وتعيش‭ ‬لحظات‭ ‬الرعب‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬المشهد‭ ‬وترتجف‭ ‬من‭ ‬برودة‭ ‬ذلك‭ ‬الصباح‭. ‬مرت‭ ‬ليلتان‭ ‬مرعبة،‭ ‬غطاهما‭ ‬البرد‭ ‬القارس‭ ‬وهذه‭ ‬الطفلة‭ ‬الصغيرة‭ ‬تنام‭ ‬لحظات‭ ‬لتنهض‭ ‬مذعورةعلى‭ ‬صوت‭ ‬تبادل‭ ‬إطلاق‭ ‬النار‭ ‬والقصف،‭ ‬ثم‭ ‬يعيدها‭ ‬الخوف‭ ‬والإرهاق‭ ‬والظلام‭ ‬تحت‭ ‬عباءة‭ ‬أمها‭ ‬المضرجة‭ ‬بدمائها‭ ‬ومن‭ ‬حولها‭ ‬جثة‭ ‬أبيها‭ ‬وأخواتها‭ ‬وأعمامها‭ ‬وعماتها‭. ‬قرر‭ ‬العميد‭ ‬مصطفى‭ ‬العزاوي‭ ‬ورجاله‭ ‬إنقاذ‭ ‬هذه‭ ‬الطفلة‭ ‬مهما‭ ‬كلف‭ ‬الثمن‭. ‬وبعد‭ ‬نقاش‭ ‬للخطة‭ ‬وتفاصيلها‭ ‬تقدم‭ ‬جنود‭ ‬من‭ ‬اللواء‭ ‬36‭ ‬دخول‭ ‬منطقة‭ ‬القتل‭ ‬وإنقاد‭ ‬هذه‭ ‬الطفلة‭ ‬البريئة‭. ‬

عرف‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬العميد‭ ‬مصطفى‭ ‬وجنوده‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الطفلة‭ ‬اليتيمة‭ ‬لم‭ ‬تبلغ‭ ‬سن‭ ‬الرابعة‭ ‬بعد‭ ‬واسمها‭ “‬طيبة‭.” ‬

برغم‭ ‬المعوقات‭ ‬التي‭ ‬تواجهه‭ ‬القوة،‭ ‬وسيطرة‭ ‬الإرهابيين‭ ‬على‭ ‬المواقع‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬المسيطرة‭ ‬على‭ ‬المكان،‭ ‬تقدمت‭ ‬القوة‭ ‬التي‭ ‬يشرف‭ ‬عليها‭ ‬العميد‭ ‬مصطفى‭ ‬شخصياً‭.‬

‭ “‬أمرت‭ ‬بتقدم‭ ‬دبابة‭ ‬أبرامز‭ ‬ومدرعات‭ ‬وبكثافة‭ ‬نارية‭ ‬لإسكات‭ ‬مصادر‭ ‬نيران‭ ‬العدو‭ ‬وبدعم‭ ‬جوي‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬قوات‭ ‬التحالف‭. ‬كان‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬المجموعة‭ ‬فريق‭ ‬طبي‭ ‬تابع‭ ‬لإحدى‭ ‬المنظمات‭ ‬غير‭ ‬الحكومية‭ ‬الأمريكية،‭ ‬حيث‭ ‬تبرع‭ ‬السيد‭ ‬ديفد‭ ‬بمصاحبة‭ ‬الجنود‭ ‬وتقديم‭ ‬الإسعافات‭ ‬الأولية‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تعرض‭ ‬أحدهم‭ ‬لإصابة‭ ‬ومعالجة‭ ‬أي‭ ‬إصابة‭ ‬بين‭ ‬المدنيين،‭ ‬وعند‭ ‬اقترابنا‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬الجثث،‭ ‬ضربنا‭ ‬قنابل‭ ‬دخانية‭ ‬لحجب‭ ‬الرؤية‭ ‬عن‭ ‬قناصين‭ ‬الدواعش،‭ ‬وبسرعة‭ ‬فائقة‭ ‬انتشل‭ ‬جنودي‭ ‬هذه‭ ‬البنت‭ ‬الصغيرة‭ ‬وتأكدوا‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬أي‭ ‬جريح‭ ‬بحاجة‭ ‬لإنقاذ‭ ‬بين‭ ‬الجثث‭ ‬وانسحبت‭ ‬المدرعات‭ ‬بسلام‭.”‬

إن‭ ‬معرفة‭ ‬وجود‭ ‬طفلة‭ ‬تنام‭ ‬بين‭ ‬جثث‭ ‬عائلتها‭ ‬ليلتين‭ ‬مرعبتين‭ ‬أمرٌ‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يستوعبه‭ ‬العقل‭ ‬البشري،‭ ‬لكن‭ ‬رؤية‭ ‬منظرها‭ ‬بملابسها‭ ‬الممزقة‭ ‬والمليئة‭ ‬بالدماء،‭ ‬ومشاهدة‭ ‬الرعب‭ ‬والحزن‭ ‬في‭ ‬نظراتها‭ ‬البريئة‭ ‬كان‭ ‬وقعه‭ ‬أكبر‭ ‬بكثير‭. ‬

‭”‬عندما‭ ‬أنزلها‭ ‬الجنود‭ ‬من‭ ‬المدرعة‭ ‬ورأيتها‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى،‭ ‬كانت‭ ‬ملابسها‭ ‬مليئة‭ ‬بالدماء‭ ‬المتخثرة،‭ ‬وتعيش‭ ‬صدمة‭ ‬كبيرة‭ ‬لهول‭ ‬ما‭ ‬مرت‭ ‬به‭. ‬لم‭ ‬امتلك‭ ‬مشاعري‭ ‬أمام‭ ‬براءتها‭ ‬التي‭ ‬تبحث‭ ‬في‭ ‬وجوهنا‭ ‬عن‭ ‬أهلها‭. ‬بدأت‭ ‬دموعي‭ ‬تنهمر‭ ‬بطريقة‭ ‬لاشعورية‭ ‬وأنا‭ ‬أضمها‭ ‬لصدري‭. ‬مكثت‭ ‬في‭ ‬مقر‭ ‬اللواء‭ ‬خمسة‭ ‬أيام،‭ ‬كنت‭ ‬أتوسل‭ ‬إليها‭ ‬أن‭ ‬تأكل‭ ‬لكنها‭ ‬تُعرض‭ ‬عن‭ ‬الطعام‭ ‬وتبكي‭ ‬كلما‭ ‬حاولنا‭ ‬ذلك‭.”‬

‭”‬لكن‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الثالث‭ ‬وبعد‭ ‬غيابي‭ ‬عن‭ ‬المقر‭ ‬منذ‭ ‬الفجر،‭ ‬كانت‭ ‬تنتظرني‭ ‬في‭ ‬المساء‭ ‬وارتمت‭ ‬في‭ ‬أحضاني‭ ‬ووافقت‭ ‬أن‭ ‬تأكل‭ ‬معي‭. ‬كانت‭ ‬فرحتي‭ ‬لا‭ ‬توصف‭ ‬لهذا‭ ‬التطور‭ ‬الإيجابي‭ ‬وأكلنا‭ ‬معا،‭ ‬وبدأت‭ ‬علاقة‭ ‬الأب‭ ‬والطفلة‭ ‬تنشأ‭ ‬بيننا‭. ‬وفرت‭ ‬لها‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تحتاج‭ ‬وعاملتها‭ ‬كإبنتي‭ ‬الصغيرة‭ ‬فكانت‭ ‬لا‭ ‬تأكل‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬يدي‭.”‬

‭”‬لكن‭ ‬نحن‭ ‬بصدد‭ ‬معركة‭ ‬شرسة‭ ‬والمقر‭ ‬ملئ‭ ‬بالأسلحة‭ ‬والجنود‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تشعر‭ ‬بدفئ‭ ‬البيت‭ ‬والعائلة‭ ‬معنا،‭ ‬لذلك‭ ‬طلبت‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬العوائل‭ ‬قرب‭ ‬مقرنا‭ ‬بالاهتمام‭ ‬بالطفلة‭. ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬أيمن،‭ ‬السيدة‭ ‬التي‭ ‬تبرعت‭ ‬بالاهتمام‭ ‬بالطفلة،‭ ‬بمثابة‭ ‬الأم‭ ‬الرؤوم‭ ‬لها،‭ ‬تعاملها‭ ‬كمعاملة‭ ‬أطفالها‭.”‬

استمر‭ ‬العميد‭ ‬مصطفى‭ ‬بتناول‭ ‬وجبة‭ ‬العشاء‭ ‬في‭ ‬مقر‭ ‬القيادة‭ ‬يومياً‭ ‬مع‭ ‬طيبة،‭ ‬وفي‭ ‬إحدي‭ ‬الليالي‭ ‬شعر‭ ‬بأعراض‭ ‬مقلقة‭ ‬على‭ ‬صحتها‭.‬

‭ “‬برغم‭ ‬موافقتها‭ ‬على‭ ‬الأكل،‭ ‬كانت‭ ‬تأكل‭ ‬قليلاً‭ ‬ويحدث‭ ‬انتفاخ‭ ‬في‭ ‬أمعائها‭ ‬وتصعد‭ ‬حرارتها‭. ‬لذلك‭ ‬استعنت‭ ‬بالسيد‭ ‬فيكتور‭ ‬ماكس،‭ ‬مدير‭ ‬منظمة‭ “‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ممكن‭ ‬بوجود‭ ‬الله‭” ‬الأمريكية‭ ‬والذي‭ ‬أرسلها‭ ‬لمستشفى‭ ‬في‭ ‬أربيل‭ ‬حيث‭ ‬مكثت‭ ‬أسبوع‭ ‬في‭ ‬أربيل،‭ ‬وبعد‭ ‬تحسن‭ ‬حالتها‭ ‬رجعت‭ ‬لتعيش‭ ‬معنا‭ ‬ثلاثة‭ ‬شهور‭ ‬وأصبحت‭ ‬محط‭ ‬اهتمام‭ ‬الجنود‭ ‬الذين‭ ‬يلاعبونها‭ ‬ويغمرونها‭ ‬بالحنان‭ ‬الأبوي‭. ‬عاشت‭ ‬معنا‭ ‬كل‭ ‬معاناتنا‭ ‬وانتصاراتنا‭. ‬كنت‭ ‬أنا‭ “‬بابا‭” ‬بالنسبة‭ ‬لها‭ ‬وتشعر‭ ‬بالأمان‭ ‬بوجودي‭ ‬معها‭. ‬كنت‭ ‬أوفر‭ ‬لها‭ ‬وللعائلة‭ ‬المضيفة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحتاجونه‭ ‬من‭ ‬ماء‭ ‬وطعام‭.”‬

حكاية‭ ‬السيدة‭ ‬أم‭ ‬أيمن‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬الكرم‭ ‬العراقي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬حدود،‭ ‬وهي‭ ‬تسرد‭ ‬قصتها‭ ‬مع‭ ‬طيبة‭.‬

‭”‬ذات‭ ‬صباح‭ ‬سمعت‭ ‬طرقاً‭ ‬على‭ ‬الباب،‭ ‬وحين‭ ‬فتحت‭ ‬كان‭ ‬أمامي‭ ‬العميد‭ ‬مصطفى‭ ‬العزاوي‭ ‬آمر‭ ‬اللواء‭ ‬الذي‭ ‬مقره‭ ‬قريبا‭ ‬منا‭ ‬وبين‭ ‬يديه‭ ‬الطفلة‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬قصتها‭ ‬حديث‭ ‬الساعة‭ ‬منذ‭ ‬الأمس،‭ ‬حيث‭ ‬أنقذها‭ ‬أبطال‭ ‬اللواء‭ ‬36‭. ‬إن‭ ‬قصة‭ ‬هذه‭ ‬البنت‭ ‬المنكودة‭ ‬تعصر‭ ‬القلب‭ ‬حزناً‭ ‬وألماً‭. ‬فجريمة‭ ‬داعش‭ ‬اللاإنسانية‭ ‬بقتل‭ ‬أهلها‭ ‬جريمة‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬مثيل‭ ‬والإسلام‭ ‬منها‭ ‬برئ‭.” ‬قال‭ ‬لي‭ ‬العميد‭:” ‬أم‭ ‬أيمن‭ ‬أنت‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬يعتني‭ ‬بهذه‭ ‬الفتاة‭ ‬لما‭ ‬عرفت‭ ‬عن‭ ‬عائلتكم‭ ‬من‭ ‬الجيران‭. ‬كما‭ ‬تعرفين‭ ‬بأننا‭ ‬جيش‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نوفر‭ ‬لها‭ ‬الحنان‭ ‬أو‭ ‬نهتم‭ ‬بها‭ ‬مثلما‭ ‬تهتم‭ ‬بها‭ ‬أم‭ ‬وأرجو‭ ‬ان‭ ‬تقبلي‭ ‬مساعدتي‭.” ‬ابتسمت‭ ‬أم‭ ‬أيمن‭ ‬وواصلت‭ ‬الحديث‭:‬

‭”‬شعرت‭ ‬بالسعادة‭ ‬لما‭ ‬قاله‭ ‬العميد‭ ‬ورأيت‭ ‬في‭ ‬نظرات‭ ‬طيبة‭ ‬حاجتها‭ ‬لأم‭ ‬ووافقت‭ ‬على‭ ‬الفور‭. ‬كانت‭ ‬ملابسها‭ ‬رثة‭ ‬وقطعة‭ ‬من‭ ‬الدم‭ ‬،وشعرها‭ ‬ملئ‭ ‬بالتراب‭ ‬والدماء‭ ‬اليابسة،‭ ‬ولا‭ ‬تتكلم‭ ‬فقط‭ ‬تبكي‭ ‬وفي‭ ‬عينيها‭ ‬خوف‭ ‬كبير‭. ‬بدأت‭ ‬بتحميمها‭ ‬لتنظيف‭ ‬جسدها‭ ‬من‭ ‬الدم‭ ‬والطين‭ ‬وألبستها‭ ‬ملابس‭ ‬جديدة‭ ‬حيث‭ ‬شعرت‭ ‬ببعض‭ ‬الارتياح‭. ‬وبدأنا‭ ‬علاقة‭ ‬أم‭ ‬وطفلة‭ ‬منذ‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭. ‬كان‭ ‬جنود‭ ‬العميد‭ ‬مصطفى‭ ‬يوصلون‭ ‬لنا‭ ‬الملابس‭ ‬الجديدة‭ ‬والمواد‭ ‬الغذائية‭ ‬حتى‭ ‬نتمكن‭ ‬من‭ ‬توفير‭ ‬الطعام‭ ‬لها‭ ‬أثناء‭ ‬تلك‭ ‬الظروف‭ ‬العصيبة‭ ‬وشحة‭ ‬الماء‭ ‬والطعام‭ ‬بسبب‭ ‬المعارك‭. ‬لم‭ ‬أرى‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬رجالاً‭ ‬كرماء‭ ‬وشجعان‭ ‬كأبناء‭ ‬جيشنا‭ ‬البطل،‭ ‬لقد‭ ‬كانوا‭ ‬يبكون‭ ‬لبكاءها‭ ‬ويحاولون‭ ‬بكل‭ ‬الطرق‭ ‬الاعتناء‭ ‬بها‭. ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬يجلبون‭ ‬لها‭ ‬بعض‭ ‬الحلويات‭ ‬ويسألون‭ ‬اذا‭ ‬كنا‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬أي‭ ‬شيء‭. ‬لقد‭ ‬شعرت‭ ‬بالفخر‭ ‬والسعادة‭ ‬في‭ ‬وجودهم‭.”‬

لكن‭ ‬حكاية‭ ‬طيبة‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬أقارب‭ ‬لها‭ ‬أصبحت‭ ‬الشغل‭ ‬الشاغل‭ ‬للعميد‭ ‬مصطفى،‭ ‬لأنه‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬بأن‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬توفير‭ ‬الحب‭ ‬والحنان‭ ‬للطفلة‭ ‬كما‭ ‬يوفره‭ ‬لها‭ ‬أهلها‭. ‬

قال‭ ‬العميد‭: “‬برغم‭ ‬علمي‭ ‬المسبق‭ ‬بأن‭ ‬الأب‭ ‬والأم‭ ‬والأشقاء‭ ‬والأعمام‭ ‬جميعهم‭ ‬قتلوا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬ولا‭ ‬يوجد‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬أهلها‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭. ‬لكني‭ ‬كنت‭ ‬أحملها‭ ‬وأسير‭ ‬في‭ ‬أزقة‭ ‬الزنجيلي‭ ‬لعلي‭ ‬أجد‭ ‬أحدا‭ ‬من‭ ‬أهلها‭. ‬نشرت‭ ‬صورها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الإعلام‭ ‬وعلى‭ ‬صفحات‭ ‬التواصل‭ ‬الإجتماعي‭. ‬كان‭ ‬هدفي‭ ‬هو‭ ‬إيجاد‭ ‬أقربائها‭. ‬كنت‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬لتبنيها،‭ ‬وقد‭ ‬طلب‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬منتسبي‭ ‬اللواء‭ ‬تبنيها،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬الدفئ‭ ‬والحنان‭ ‬إلا‭ ‬بين‭ ‬أهلها‭.” ‬مسح‭ ‬دموعه‭ ‬بيده‭ ‬وأكمل‭ ‬الحديث‭.‬

بنفس‭ ‬المجال‭ ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬أيمن‭ ‬تعمل‭ ‬لإيجاد‭ ‬أحد‭ ‬بين‭ ‬الجيران‭ ‬يعرف‭ ‬طيبة‭.‬

‭”‬كنت‭ ‬آخذها‭ ‬معي‭ ‬لزيارة‭ ‬بعض‭ ‬الجيران‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يتركوا‭ ‬المنطقة،‭ ‬وأتحدث‭ ‬لهم‭ ‬عنها‭ ‬لعلهم‭ ‬يعرفون‭ ‬أحداً‭ ‬من‭ ‬أقاربها‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ما‭. ‬كنت‭ ‬كلما‭ ‬سمعت‭ ‬خبر‭ ‬أبلغ‭ ‬به‭ ‬العميد‭ ‬مصطفى‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يراني‭ ‬كل‭ ‬مساء‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬من‭ ‬المعارك‭. ‬وكان‭ ‬جميع‭ ‬الجيران‭ ‬يعملون‭ ‬لمساعدة‭ ‬هذه‭ ‬الطفلة‭.”‬

ويكمل‭ ‬العميد‭ ‬مصطفى‭ ‬كيف‭ ‬وضع‭ ‬قصة‭ ‬وصور‭ ‬طيبة‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬التواصل‭ ‬الإجتماعي،‭ ‬وعلى‭ ‬قنوات‭ ‬الإعلام‭ ‬العراقي‭ ‬وذهب‭ ‬يطرق‭ ‬أبواب‭ ‬أحياء‭ ‬الزنجيلي‭ ‬يسأل‭ ‬عن‭ ‬من‭ ‬يعرفها‭.‬

‭”‬بعد‭ ‬ثلاثة‭ ‬شهور‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬طيبة‭ ‬بيننا،‭ ‬تعودت‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬الحياة‭ ‬مع‭ ‬الجنود‭. ‬كان‭ ‬طباخي‭ ‬بهو‭ ‬الضباط‭ ‬في‭ ‬مقر‭ ‬اللواء‭ ‬يعرفون‭ ‬وجبتها‭ ‬المفضلة،‭ ‬وكانوا‭ ‬يتسابقون‭ ‬لتوفير‭ ‬ماتطلب‭. ‬بدأت‭ ‬تبتسم‭ ‬لملاطفتهم‭ ‬وبعض‭ ‬الأحيان‭ ‬تشاركهم‭ ‬اللعب‭. ‬وأحبت‭ ‬عائلة‭ ‬أم‭ ‬أيمن‭ ‬كثيراً‭. ‬تحررت‭ ‬الموصل‭ ‬من‭ ‬رجس‭ ‬الإرهاب،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬غصة‭ ‬حزن‭ ‬في‭ ‬قلبي‭ ‬كلما‭ ‬نظرت‭ ‬لطيبة‭ ‬ورأيت‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬المستقبل‭ ‬في‭ ‬عينيها‭. ‬كنت‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬بأننا‭ ‬لن‭ ‬نبقى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموقع‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة،‭ ‬وربما‭ ‬سنتحرك‭ ‬لقتال‭ ‬داعش‭ ‬في‭ ‬جبهات‭ ‬أخرى،‭ ‬فكيف‭ ‬سآخذ‭ ‬طيبة،‭ ‬وهل‭ ‬ستقبل‭ ‬بأن‭ ‬تعيش‭ ‬مع‭ ‬عائلة‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬أم‭ ‬أيمن‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفترة،‭ ‬اتصلت‭ ‬بي‭ ‬عائلة‭ ‬من‭ ‬محافظة‭ ‬ديالى،‭ ‬وقالوا‭ ‬بأنهم‭ ‬بيت‭ ‬خالتها،‭ ‬وجاء‭ ‬زوج‭ ‬الخالة‭ ‬من‭ ‬ديالى‭ ‬للموصل‭ ‬للقائي،‭ ‬لكني‭ ‬ترددت‭ ‬بتسليمها‭ ‬لعدم‭ ‬وجود‭ ‬مستمسكات‭ ‬رسمية‭ ‬ولأني‭ ‬رأيت‭ ‬طيبة‭ ‬تتعامل‭ ‬معه‭ ‬وكأنها‭ ‬تراه‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭. ‬بعد‭ ‬رفضي‭ ‬جاءني‭ ‬أحد‭ ‬شيوخ‭ ‬قبيلة‭ ‬عزة‭ -‬التي‭ ‬أنتمي‭ ‬إليها‭ ‬والتي‭ ‬شاءت‭ ‬الصدفة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬قبيلة‭ ‬أم‭ ‬طيبة‭ ‬أيضاً،‭ ‬وهو‭ ‬يعرف‭ ‬العائلة‭ ‬وقدم‭ ‬لي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬دليل‭. ‬وبرغم‭ ‬كل‭ ‬احترامي‭ ‬وتقديري‭ ‬له،‭ ‬رفضت‭ ‬تسلميها‭ ‬إلا‭ ‬أذا‭ ‬تعرفت‭ ‬البنت‭ ‬على‭ ‬العائلة‭. ‬واتفقت‭ ‬معه‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬بالخالة‭ ‬والجدة‭ ‬ونرى‭ ‬إذا‭ ‬تعرفت‭ ‬عليهم‭. ‬وبالفعل‭ ‬تحملن‭ ‬عناء‭ ‬السفر‭ ‬الشاق‭ ‬من‭ ‬ديالى‭ ‬إلى‭ ‬الزنجيلي‭ ‬وجئن‭ ‬لمقر‭ ‬القيادة،‭ ‬وحين‭ ‬سقطت‭ ‬عينا‭ ‬طيبة‭ ‬على‭ ‬جدتها‭ ‬عرفتها‭ ‬واحتضنتها‭ ‬وبكت‭ ‬في‭ ‬أحضانها‭ ‬طويلا‭ ‬وكأنها‭ ‬تشكوا‭ ‬لها‭ ‬أو‭ ‬تعاتبها‭ ‬على‭ ‬تركها‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭. ‬لقد‭ ‬اطمأنت‭ ‬هواجسي‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬عائلتها‭ ‬وشعرت‭ ‬بارتياح‭ ‬كبير‭ ‬وحمدت‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬أننا‭ ‬أستطعنا‭ ‬إنقاذ‭ ‬هذه‭ ‬الطفلة‭ ‬من‭ ‬موت‭ ‬محقق‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬القتلة‭ ‬ولم‭ ‬نتركها‭ ‬للتشرد‭ ‬أو‭ ‬للقتل‭ ‬في‭ ‬ازقة‭ ‬الموصل‭. ‬بل‭ ‬أدينا‭ ‬شرف‭ ‬الأمانة‭ ‬العسكرية‭ ‬وحافظنا‭ ‬على‭ ‬سلامة‭ ‬ابنة‭ ‬الوطن‭.”‬

طيبة‭ ‬الآن‭ ‬تعيش‭ ‬مع‭ ‬بيت‭ ‬جدتها‭ ‬وسعيدة‭ ‬هناك‭. ‬والعميد‭ ‬مصطفى‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬على‭ ‬تواصل‭ ‬مستمر‭ ‬معهم‭. ‬ويتمنى‭ ‬أن‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تنسيها‭ ‬ما‭ ‬مرت‭ ‬به‭ ‬وأن‭ ‬تجد‭ ‬الاهتمام‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬منظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬لتقديم‭ ‬الرعاية‭ ‬والتأكد‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬حالة‭ ‬نفسية‭ ‬من‭ ‬الحادثة‭.‬

‭”‬سألني‭ ‬احد‭ ‬الصحفيين‭ ‬كيف‭ ‬أوفق‭ ‬بين‭ ‬قيادة‭ ‬المعركة‭ ‬والاهتمام‭ ‬بالطفلة،‭ ‬نحن‭ ‬عراقيين‭ ‬ونقاتل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬هذا‭ ‬الشعب‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أهلنا،‭ ‬ونتأثر‭ ‬كثيراً‭ ‬لإراقة‭ ‬دماء‭ ‬الأبرياء‭. ‬هذه‭ ‬الطفلة‭ ‬مرت‭ ‬بالكثير،‭ ‬وقصتها‭ ‬حزينة‭ ‬ومؤلمة‭. ‬ونحن‭ ‬كعراقيين،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬نتفاعل‭ ‬مع‭ ‬مأساة‭ ‬هذه‭ ‬البنت‭ ‬البريئة‭. ‬كنت‭ ‬أخرج‭ ‬للخطوط‭ ‬الأمامية‭ ‬عند‭ ‬الفجر‭ ‬وأعود‭ ‬عند‭ ‬المساء،‭ ‬يجلبوها‭ ‬لي،‭ ‬نتناول‭ ‬طعام‭ ‬العشاء‭ ‬معا‭. ‬وبتوفيق‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬تمكنت‭ ‬أن‭ ‬اعتني‭ ‬بها‭ ‬وأقود‭ ‬المعركة‭ ‬في‭ ‬قاطع‭ ‬مسؤوليتي‭.”  

التعليقات مغلقة.