موقف بطولي

كيف‭ ‬انقذت‭ ‬الأم‭ ‬والجدة‭ ‬حياة‭ ‬الجنود‭ ‬وزرعت‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬العراقيين

أسرة‭ ‬يونيباث

في تقاليد‭ ‬القبائل‭ ‬العربية،‭ ‬لكل‭ ‬قبيلة‭ ‬كلمة‭ ‬يفتخر‭ ‬بها‭ ‬رجال‭ ‬القبيلة‭ ‬ويسمونها‭ “‬نخوة‭”‬،‭ ‬ونخوة‭ ‬قبيلة‭ ‬الجبور‭ ‬هي‭ “‬اخو‭ ‬هدلة‭” ‬وربما‭ ‬بعد‭ ‬الموقف‭ ‬الوطني‭ ‬المشرف‭ ‬للسيدة‭ ‬عليا‭ ‬خلف‭ ‬الجبوري‭ (‬أم‭ ‬قصي‭) ‬ستكون‭ ‬نخوتهم‭ “‬أخو‭ ‬عليا‭.” ‬أم‭ ‬قصي،‭ ‬إسما‭ ‬مألوفا‭ ‬دخل‭ ‬قلوب‭ ‬وبيوت‭ ‬العراقيين‭ ‬لشجاعتها‭ ‬بإنقاذ‭ ‬حياة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمسين‭ ‬جنديا‭ ‬عراقيا‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬تقطعت‭ ‬بهم‭ ‬السبل‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬اجتاحتها‭ ‬عصابات‭ ‬داعش،‭ ‬امرأة‭ ‬ذات‭ ‬أعصاب‭ ‬فولاذية‭ ‬تجاوزت‭ ‬التخندق‭ ‬الطائفي‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬كان‭ ‬العراق‭ ‬امام‭ ‬منزلق‭ ‬خطير‭ ‬لحرب‭ ‬طائفية‭ ‬وفوضى‭ ‬قد‭ ‬تعم‭ ‬المنطقة‭ ‬بكاملها‭. ‬و‭ ‬كانت‭ ‬سكاكين‭ ‬الإرهاب‭ ‬المجنونة‭ ‬تقتل‭ ‬الأبرياء‭ ‬لأسباب‭ ‬تافهة،‭ ‬لكنها‭ ‬وبشجاعة‭ ‬وشهامة‭ ‬فرسان‭ ‬قبيلة‭ ‬الجبور‭ ‬اكرمت‭ ‬وحمت‭ ‬ضيوفها‭ ‬بكل‭ ‬أخلاص‭. ‬موقفها‭ ‬الشجاع‭ ‬نزع‭ ‬الرعب‭ ‬الطائفي‭ ‬من‭ ‬القلوب‭ ‬الخائفة‭ ‬وأعاد‭ ‬للعراقيين‭ ‬وحدتهم‭ ‬الوطنية‭. ‬

تقع‭ ‬ناحية‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬الغربية‭ ‬من‭ ‬نهر‭ ‬دجلة‭ ‬الذي‭ ‬يفصلها‭ ‬عن‭ ‬تكريت‭ ‬وبيجي‭. ‬تلك‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬معارك‭ ‬شرسة‭ ‬وشهدت‭ ‬اكبر‭ ‬مجزرة‭ ‬في‭ ‬تأريخ‭ ‬العراق‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬عصابات‭ ‬داعش‭ ‬في‭ ‬معسكر‭ ‬سبايكر‭ ‬الذي‭ ‬يبعد‭ ‬حوالي‭ ‬16‭ ‬كيلومترا‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬العلم‭. ‬سبايكر‭ ‬يضم‭ ‬مدرسة‭ ‬القوة‭ ‬الجوية‭ ‬العراقية‘‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬اغلب‭ ‬الضحايا‭ ‬هم‭ ‬طلابا‭ ‬وليسوا‭ ‬مقاتلين‭. ‬هزت‭ ‬هذه‭ ‬المجزرة‭ ‬ضمير‭ ‬الأنسانية‭ ‬وكان‭ ‬وقعها‭ ‬مؤلما‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬العراقيين‭. ‬نشر‭ ‬الارهابيون‭ ‬المجزرة‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬التواصل‭ ‬الأجتماعي‭ ‬ليظهروا‭ ‬مدى‭ ‬وحشيتهم‭ ‬وحقدهم‭. ‬لذلك‭ ‬وقفت‭ ‬أم‭ ‬قصي‭ ‬بكل‭ ‬شجاعة‭ ‬لإنقاذ‭ ‬الجنود‭ ‬الذين‭ ‬نجوا‭ ‬من‭ ‬مجزرة‭ ‬سبايكر‭ ‬لكنهم‭ ‬مازالوا‭ ‬محاصرين‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬النهر‭ ‬وإرهابيي‭ ‬داعش‭ ‬يبحثون‭ ‬عنهم‭ ‬كالضباع‭ ‬التي‭ ‬تتبع‭ ‬الفريسة‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قرار‭ ‬أم‭ ‬قصي‭ ‬سهلا،‭ ‬فهي‭ ‬تغامر‭ ‬بحياتها‭ ‬وحياة‭ ‬أبنائها‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬تؤمن‭ ‬بأن‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الشباب‭ ‬أمهات‭ ‬ينتظرن‭ ‬عودتهم‭. ‬

‭”‬كانت‭ ‬جثث‭ ‬الشهداء‭ ‬المغدورين‭ ‬تطفو‭ ‬في‭ ‬النهر،‭ ‬حيث‭ ‬كنت‭ ‬أرى‭ ‬فيهم‭ ‬زوجي‭ ‬وولدي‭ ‬الذين‭ ‬قتلوا‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬داعش‭. ‬وأسمع‭ ‬الأخبار‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬سبايكر‭ ‬ومن‭ ‬الشرقاط‭ ‬وبيجي‭ ‬ويتقطع‭ ‬قلبي‭ ‬على‭ ‬دماء‭ ‬شبابنا‭ ‬الذين‭ ‬يقتلون‭ ‬بوحشية‭ ‬وتنشر‭ ‬مشاهد‭ ‬الذبح‭ ‬للأمهات‭ ‬الثكالى‭. ‬كان‭ ‬الخوف‭ ‬والقلق‭ ‬يملأ‭ ‬قلوب‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬وهنا‭ ‬قررت‭ ‬مع‭ ‬اولادي‭ ‬ان‭ ‬ننقذ‭ ‬الجنود‭ ‬ونساعدهم‭ ‬على‭ ‬عبور‭ ‬النهر‭.”‬

‭ ‬تغنت‭ ‬ام‭ ‬قصي‭ ‬بشهامة‭ ‬وشجاعة‭ ‬أهل‭ ‬ناحية‭ ‬العلم،‭ ‬الذين‭ ‬قاوموا‭ ‬داعش‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬كل‭ ‬المدن‭ ‬من‭ ‬حولهم‭ ‬وساعدوا‭ ‬الجنود‭ ‬المحاصرين‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬النهر‭ ‬بالعبور‭ ‬حيث‭ ‬انقذوا‭ ‬حوالي‭ ‬400‭ ‬من‭ ‬طلاب‭ ‬القوة‭ ‬الجوية‭ ‬الذين‭ ‬هربوا‭ ‬من‭ ‬سبايكر‭. ‬

‭”‬كان‭ ‬اهل‭ ‬العلم‭ ‬يعبرون‭ ‬الجنود‭ ‬والأهالي‭ ‬الفارين‭ ‬من‭ ‬تكريت‭ ‬بالزوارق‭ ‬وبقية‭ ‬الشباب‭ ‬يطلقون‭ ‬النار‭ ‬على‭ ‬الدواعش‭ ‬لمنعهم‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬لمنطقة‭ ‬العبور‭. ‬كان‭ ‬أولادي‭ ‬يقاتلون‭ ‬مع‭ ‬أبناء‭ ‬العلم‭ ‬على‭ ‬السدة‭ ‬وانا‭ ‬أأوي‭ ‬الجنود‭ ‬في‭ ‬بيتي‭. ‬كنت‭ ‬لوحدي‭ ‬مع‭ ‬بناتي‭ ‬وأحفادي‭. ‬كنت‭ ‬اتشارك‭ ‬معهم‭ ‬رغيف‭ ‬الخبز‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬لدينا‭ ‬ما‭ ‬نأكله‭. ‬فكان‭ ‬ولدي‭ ‬خالد‭ ‬يجلب‭ ‬الجنود‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬العبور‭ ‬ويبقون‭ ‬لدينا‭ ‬يومين‭ ‬ونوصلهم‭ ‬الى‭ ‬طريق‭ ‬كركوك‭ ‬ومن‭ ‬هناك‭ ‬يذهبون‭ ‬لأهلهم‭. ‬استضفت‭ ‬شباب‭ ‬من‭ ‬الموصل‭ ‬وديالى‭ ‬وكركوك‭ ‬وبغداد‭ ‬والجنوب‭.”‬

مسحت‭ ‬أم‭ ‬قصي‭ ‬دمعة‭ ‬من‭ ‬عينها‭ ‬وهي‭ ‬تتذكر‭ ‬موقفا‭ ‬حزينا‭. ‬لجنود‭ ‬ودعتهم‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬يحالفهم‭ ‬الحظ‭ ‬بالوصول‭ ‬لأهلهم‭ ‬بسلام‭.‬

‭”‬جاءنا‭ ‬ثلاث‭ ‬شباب،‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الأدب‭ ‬بقوا‭ ‬معنا‭ ‬يوم‭ ‬وشكرونا‭ ‬على‭ ‬موقفنا‭ ‬لكنهم‭ ‬رفضوا‭ ‬البقاء‭ ‬رغم‭ ‬الحاحي‭ ‬عليهم‭ ‬بالعدول‭ ‬لأن‭ ‬الطرق‭ ‬غير‭ ‬آمنه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭. ‬وقد‭ ‬علمت‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬بأنهم‭ ‬لم‭ ‬يصلوا‭ ‬لأهلهم‭. ‬ندمت‭ ‬لأني‭ ‬لم‭ ‬أجبرهم‭ ‬على‭ ‬البقاء‭.” ‬

‭ ‬لقد‭ ‬تمكن‭ ‬أهالي‭ ‬العلم‭ ‬من‭ ‬انقاذ‭ ‬جميع‭ ‬الجنود‭ ‬المحاصرين‭ ‬بالضفة‭ ‬الأخرى‭ ‬قبل‭ ‬تأزم‭ ‬الأوضاع‭ ‬وأنقطاع‭ ‬الطرق،‭ ‬لكن‭ ‬جاءها‭ ‬اتصال‭ ‬قلب‭ ‬كل‭ ‬الحسابات‭. ‬

‭”‬اتصل‭ ‬بنا‭ ‬أبو‭ ‬حمد،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬عمومتنا‭ ‬ومن‭ ‬المخلصين‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الحجاج‭ ‬التي‭ ‬تبعد‭ ‬حوالي‭ ‬40‭ ‬كيلومتر‭ ‬جنوب‭ ‬العلم،‭ ‬وقال‭ ‬ان‭ ‬داعش‭ ‬سيطرت‭ ‬على‭ ‬منطقتهم‭ ‬ويوجد‭ ‬عندهم‭ ‬6‭ ‬جنود‭ ‬يجب‭ ‬اخراجهم‭ ‬قبل‭ ‬انكشاف‭ ‬امرهم‭. ‬نحن‭ ‬لانملك‭ ‬سيارة‭ ‬ولانستطيع‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬المنطقة‭ ‬بسبب‭ ‬المعارك‭ ‬الدائرة‭ ‬من‭ ‬حولنا‭. ‬لكني‭ ‬اقدر‭ ‬حراجة‭ ‬الموقف‭ ‬ولم‭ ‬أتمالك‭ ‬نفسي،‭ ‬طلبت‭ ‬مجئ‭ ‬ابن‭ ‬اخي‭ ‬الذي‭ ‬يملك‭ ‬سيارة‭ ‬وطلبت‭ ‬من‭ ‬إبنتي‭ ‬وولدي‭ ‬خالد‭ ‬الذهاب‭ ‬لجلب‭ ‬الجنود‭. ‬أرسلت‭ ‬إبنتي‭ ‬معهم‭ ‬لجلب‭ ‬الجنود‭ ‬كي‭ ‬يوهموا‭ ‬الدواعش‭ ‬بانهم‭ ‬عائلة‭ ‬فلا‭ ‬يعترضونهم‭. ‬أتذكر‭ ‬حينها‭ ‬نظر‭ ‬لي‭ ‬خالد‭ ‬بقلق‭ ‬قائلا‭: ‬يا‭ ‬امي‭ ‬كيف‭ ‬اخرج‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬والمنطقة‭ ‬كلها‭ ‬دواعش‭ ‬والقرية‭ ‬التي‭ ‬خلفنا‭ ‬جميعها‭ ‬دواعش،‭ ‬وكيف‭ ‬اجازف‭ ‬باختي،‭ ‬البنت‭ ‬الشابة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تبلغ‭ ‬العشرين؟‭ ‬لكنني‭ ‬اصريت‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬أخته‭ ‬معه‭ ‬وقلت‭ ‬له‭ ‬بأن‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الجنود‭ ‬أمهات‭ ‬تتضوع‭ ‬الما‭ ‬وتصلي‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬سلامتهم‭ ‬ليلا‭ ‬ونهارا‭. ‬عند‭ ‬وصولهم‭ ‬للمنطقة‭ ‬كان‭ ‬داعش‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬المكان،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬ولدي‭ ‬ان‭ ‬يترك‭ ‬اخته‭ ‬و‭ ‬يعبر‭ ‬النهر‭ ‬سباحة‭ ‬ليجلب‭ ‬الجنود‭ ‬بالقارب‭. ‬وهناك‭ ‬أبو‭ ‬حمد‭ ‬وحمد‭ ‬ينتظرون‭ ‬وصول‭ ‬خالد‭ ‬ليعبّروا‭ ‬الجنود‭ ‬معا‭. ‬وأثناء‭ ‬عملية‭ ‬العبور‭ ‬استشهد‭ ‬حمد‭ ‬واخذ‭ ‬تيار‭ ‬الماء‭ ‬يجرف‭ ‬الجنود‭ ‬لجهة‭ ‬الدواعش‭ ‬وهم‭ ‬يستنجدون‭ ‬بخالد‭ ‬الذي‭ ‬بقي‭ ‬محتارا‭ ‬بين‭ ‬ان‭ ‬يبقى‭ ‬مع‭ ‬أبو‭ ‬حمد‭ ‬الذي‭ ‬فجع‭ ‬بولده‭ ‬او‭ ‬يذهب‭ ‬لإنقاذ‭ ‬الجنود‭ ‬وينظر‭ ‬لمكان‭ ‬اخته‭ ‬في‭ ‬ضفة‭ ‬النهر‭ ‬الأخرى‭ ‬حيث‭ ‬بدأ‭ ‬الدواعش‭ ‬يقتربون‭ ‬منها‭. ‬وهنا‭ ‬وقف‭ ‬أبو‭ ‬حمد‭ ‬بصلابة‭ ‬وقال‭ ‬لخالد،‭ ‬ولدي‭ ‬قد‭ ‬استشهد‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬انقاذ‭ ‬أبناء‭ ‬الجنوب‭ ‬ويجب‭ ‬ان‭ ‬نكمل‭ ‬ما‭ ‬بدأه‭ ‬حمد‭. ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬ان‭ ‬أنسى‭ ‬موقف‭ ‬أبو‭ ‬حمد‭ ‬الشجاع،‭ ‬ولله‭ ‬الحمد‭ ‬استطاع‭ ‬خالد‭ ‬وأخته‭ ‬من‭ ‬أيصال‭ ‬الجنود‭ ‬لبيتنا‭ ‬بسلام‭.” ‬

ارتشفت‭ ‬قهوتها‭ ‬أم‭ ‬قصي‭ ‬وهي‭ ‬تتذكر‭ ‬حالة‭ ‬الجنود‭ ‬الستة‭ ‬وهم‭ ‬يدخلون‭ ‬بيتها‭. ‬

‭”‬لا‭ ‬استطيع‭ ‬وصف‭ ‬حالتهم‭ ‬حين‭ ‬رأيتهم‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى،‭ ‬كانت‭ ‬فرائصهم‭ ‬ترتجف‭ ‬من‭ ‬الذعر،‭ ‬و‭ ‬كانت‭ ‬وجوهم‭ ‬كوجوه‭ ‬الأموات‭. ‬ملابسهم‭ ‬الوحلة‭ ‬وأحذيتهم‭ ‬الممزقة‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬وعورة‭ ‬الطرق‭ ‬والمستنقعات‭ ‬التي‭ ‬قطعوها‭ ‬حتى‭ ‬وصلوا‭ ‬لمكان‭ ‬آمن‭. ‬برغم‭ ‬فجيعتي‭ ‬بولدي‭ ‬وزوجي،‭ ‬وخوفي‭ ‬من‭ ‬عثور‭ ‬داعش‭ ‬عليهم‭ ‬في‭ ‬بيتي‭ ‬وما‭ ‬يترتب‭ ‬عليه،‭ ‬شعرت‭ ‬بقوة‭ ‬خارقة‭ ‬في‭ ‬بدني‭ ‬وعزيمة‭ ‬امراة‭ ‬تتحدى‭ ‬الخوف‭ ‬بثت‭ ‬الأمان‭ ‬في‭ ‬نفوسهم‭. ‬لا‭ ‬ادري‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬جاءني‭ ‬هذا‭ ‬العزم،‭ ‬لكن‭ ‬أشعر‭ ‬بأن‭ ‬الله‭ ‬نفخ‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القوة‭ ‬ففر‭ ‬الخوف‭. ‬طلبت‭ ‬من‭ ‬خالد‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬بتجهيز‭ ‬الحمام‭ ‬لهم‭ ‬واعطائهم‭ ‬بعضا‭ ‬من‭ ‬أرديته‭ ‬وأردية‭ ‬اخوته،‭ ‬ثم‭ ‬حضرت‭ ‬لهم‭ ‬وجبة‭ ‬الطعام‭ ‬وجلست‭ ‬اتناوله‭ ‬معهم‭.”‬

كان‭ ‬الخوف‭ ‬يملأ‭ ‬الدهاليز‭ ‬الريفية‭ ‬الضيقة،‭ ‬واصوات‭ ‬رصاص‭ ‬الغدر‭ ‬تشق‭ ‬سكون‭ ‬الليل،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬إرهابيو‭ ‬داعش‭ ‬يتسللون‭ ‬للتجسس‭ ‬وتصفية‭ ‬العناصر‭ ‬الوطنية‭ ‬التي‭ ‬ترفض‭ ‬فكرهم‭ ‬المريض‭. ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬قصي‭ ‬تحرس‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشباب‭ ‬وتتظاهر‭ ‬بقوة‭ ‬البأس‭ ‬أمامهم‭.‬

‭”‬عندما‭ ‬اخلو‭ ‬لنفسي،‭ ‬تراودني‭ ‬المخاوف‭ ‬على‭ ‬مصيرهم‭ ‬وأتذكر‭ ‬زوجي‭ ‬وولدي‭ ‬وأبكي‭ ‬بحرقة،‭ ‬لكني‭ ‬عندما‭ ‬ادخل‭ ‬للديوان‭ ‬تكون‭ ‬عزيمتي‭ ‬عالية‭ ‬وانا‭ ‬ابتسم‭ ‬لهم‭. ‬كنت‭ ‬اجلس‭ ‬طوال‭ ‬الليل‭ ‬وبقربي‭ ‬بندقيتي‭ ‬لحراستهم‭ ‬لأنهم‭ ‬امانة‭ ‬عندي‭ ‬وأخاف‭ ‬عليهم‭ ‬كثيرا‭. ‬كانت‭ ‬علامة‭ ‬الأمان‭ ‬لهم‭ ‬هو‭ ‬جلوسي‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬قرب‭ ‬الموقد،‭ ‬اذا‭ ‬خرج‭ ‬احدهم‭ ‬ولم‭ ‬يجدني‭ ‬تنتابه‭ ‬الهواجس‭ ‬فيبحث‭ ‬عني‭ ‬ليتأكد‭ ‬اني‭ ‬بخير‭. ‬عندما‭ ‬اذهب‭ ‬لاطمئن‭ ‬عليهم‭ ‬ليلاً،‭ ‬اجدهم‭ ‬نائمين‭ ‬دون‭ ‬غطاء‭ ‬فأتسائل‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬هل‭ ‬يعتقدون‭ ‬بأن‭ ‬الغطاء‭ ‬قد‭ ‬يعرقل‭ ‬هروبهم‭ ‬حين‭ ‬يداهمهم‭ ‬الخطر‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬غرة‭. ‬وحين‭ ‬اغطيهم‭ ‬بهدوء،‭ ‬يستقيظون‭ ‬فزعين‭ ‬ثم‭ ‬يواصلون‭ ‬النوم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يروني‭ ‬بقربهم‭.”‬

ذكرت‭ ‬أم‭ ‬قصي‭ ‬مواقف‭ ‬الرجال‭ ‬الشجعان‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الظروف‭ ‬الصعبة‭ ‬وكيف‭ ‬كانوا‭ ‬يقاتلون‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬مرتفعات‭ ‬حمرين‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬الفتحة‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬النهر‭ ‬لمنع‭ ‬عصابات‭ ‬داعش‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬قريتهم‭. ‬

‭”‬شراسة‭ ‬المعارك‭ ‬جعلت‭ ‬الرجال‭ ‬منهمكين،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬تشغل‭ ‬اخي‭ ‬وأبن‭ ‬عمي‭ ‬الشيخ‭ ‬خميس‭ ‬آل‭ ‬جبارة‭ ‬من‭ ‬تفقد‭ ‬السكان‭ ‬وبالخصوص‭ ‬بيتي‭ ‬لمعرفته‭ ‬بوجود‭ ‬الجنود،‭ ‬وقال‭ ‬جئت‭ ‬لأرفع‭ ‬من‭ ‬معنوياتك‭ ‬وأتمنى‭ ‬ان‭ ‬تكوني‭ ‬بخير‭. ‬برغم‭ ‬اني‭ ‬محطمة‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬ابتسمت‭ ‬له‭ ‬وقلت‭ ‬بأن‭ ‬معنوياتي‭ ‬عالية،‭ ‬وقلت‭ ‬له‭ ‬انا‭ ‬سعيدة‭ ‬جدا‭ ‬بأنقاذ‭ ‬ابنائي‭ ‬والأعتناء‭ ‬بهم‭. ‬لم‭ ‬يتركني‭ ‬ابدا،‭ ‬كان‭ ‬يزورني‭ ‬بين‭ ‬اليوم‭ ‬والآخر‭ ‬ليطمئن‭ ‬على‭ ‬وضعي‭ ‬ويسأل‭ ‬ان‭ ‬كنت‭ ‬بحاجة‭ ‬لأي‭ ‬شيء‭ ‬فكان‭ ‬رجلا‭ ‬بمعنى‭ ‬الكلمة‭.”‬

أحكم‭ ‬الدواعش‭ ‬قبضتهم‭ ‬على‭ ‬ناحية‭ ‬العلم‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الجهات،‭ ‬لأنها‭ ‬بالنسبة‭ ‬لهم‭ ‬موقع‭ ‬امداد‭ ‬مهم‭ ‬بين‭ ‬سلسلة‭ ‬جبال‭ ‬حمرين‭ ‬وتكريت‭ ‬وكي‭ ‬يثأروا‭ ‬من‭ ‬أهلها‭ ‬لموقفهم‭ ‬المعادي‭ ‬لعصابات‭ ‬الزرقاوي‭ ‬ورفضهم‭ ‬الانجرار‭ ‬الى‭ ‬الاقتتال‭ ‬الطائفي‭ ‬آنذاك‭. ‬

‭”‬بعد‭ ‬15‭ ‬يوما‭ ‬من‭ ‬المعارك‭ ‬والحصار‭ ‬على‭ ‬الناحية‭ ‬من‭ ‬عصابات‭ ‬داعش،‭ ‬أحكموا‭ ‬قبضتهم‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭ ‬وتم‭ ‬التفاوض‭ ‬معهم‭ ‬ليلا‭ ‬بأن‭ ‬يدخلوا‭ ‬ويسمحوا‭ ‬للناس‭ ‬بالخروج‭. ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬الحزينة‭ ‬أصبحت‭ ‬العلم‭ ‬تحت‭ ‬قبضة‭ ‬داعش‭. ‬وتعقدت‭ ‬الأوضاع‭ ‬في‭ ‬الناحية‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬أي‭ ‬أمل‭ ‬بالخلاص‭. ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الثاني‭ ‬كان‭ ‬الدواعش‭ ‬يجوبون‭ ‬الحارات‭ ‬والبيوت‭ ‬مع‭ ‬مخبريهم‭ ‬بحثا‭ ‬عمن‭ ‬قاتلهم‭ ‬وعمن‭ ‬ساعد‭ ‬الجنود‭ ‬على‭ ‬الهرب‭. ‬وبدأوا‭ ‬بتهديم‭ ‬البيوت‭ ‬المشتبه‭ ‬بها‭ ‬وأقتياد‭ ‬الناس‭ ‬لجهه‭ ‬غير‭ ‬معلومة،‭ ‬مما‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬الارتباك‭ ‬وأصبحت‭ ‬لا‭ ‬اعرف‭ ‬ماذا‭ ‬افعل‭ ‬واين‭ ‬أخبىء‭ ‬الشباب‭.”‬

بدأ‭ ‬التقصي‭ ‬والتفتيش‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬داعش‭ ‬للمدينة،‭ ‬وكان‭ ‬قرار‭ ‬أم‭ ‬قصي‭ ‬وأبنائها‭ ‬هو‭ ‬القتال‭ ‬حتى‭ ‬النهاية‭ ‬بدل‭ ‬العار‭ ‬في‭ ‬تسليم‭ ‬من‭ ‬استجار‭ ‬بهم‭ ‬لداعش‭.‬‭ ‬

‭”‬اخرجت‭ ‬الصغار‭ ‬بحجة‭ ‬اللعب‭ ‬امام‭ ‬المنزل‭ ‬لكنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يراقبون‭ ‬الطريق‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬قدوم‭ ‬داعش‭ ‬فجأة‭. ‬طلبوا‭ ‬مني‭ ‬بأن‭ ‬يتركوا‭ ‬المنزل‭ ‬لكي‭ ‬لا‭ ‬نقتل‭ ‬بسببهم،‭ ‬لكني‭ ‬قلت‭ ‬اهون‭ ‬علي‭ ‬ان‭ ‬اموت‭ ‬معكم‭ ‬على‭ ‬العار‭ ‬الذي‭ ‬سيلحق‭ ‬بنا‭ ‬أذا‭ ‬تخلينا‭ ‬عن‭ ‬ضيفنا‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬عصابات‭ ‬داعش‭. ‬قلت‭ ‬لهم‭ ‬وبحضور‭ ‬اولادي،‭ ‬بأن‭ ‬خالد‭ ‬ولؤي‭ ‬لديهم‭ ‬بنادق‭ ‬وانا‭ ‬عندي‭ ‬بندقيتان،‭ ‬اعطيتهم‭ ‬واحدة‭ ‬وأبقيت‭ ‬بندقيتي‭. ‬وقررنا‭ ‬أن‭ ‬نقاتل‭ ‬حتى‭ ‬الموت‭ ‬أذا‭ ‬داهمت‭ ‬عصابات‭ ‬داعش‭ ‬المنزل‭.”‬

لم‭ ‬تفقد‭ ‬الأمل‭ ‬بالخلاص‭ ‬وأنقاذ‭ ‬الجنود،‭ ‬بل‭ ‬أصرت‭ ‬على‭ ‬الأستمرار‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬طريقة‭ ‬تستطيع‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬أنقاذهم،‭ ‬كانت‭ ‬تؤمن‭ ‬بحدوث‭ ‬معجزة‭ ‬إلهيه‭ ‬لإنقاذ‭ ‬الشباب‭. ‬

‭”‬بحثت‭ ‬عن‭ ‬من‭ ‬يوصلنا‭ ‬كعائلة‭ ‬خارج‭ ‬العلم،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬المعارف‭ ‬والجيران‭ ‬توصلنا‭ ‬لشخص‭ ‬يقول‭ ‬بانه‭ ‬يستطيع‭ ‬اخراجنا‭ ‬باتجاه‭ ‬سامراء‭. ‬سأل‭ ‬بالتفصيل‭ ‬عن‭ ‬أسماء‭ ‬وعدد‭ ‬الأشخاص،‭ ‬وقلت‭ ‬له‭ ‬انا‭ ‬وأبنائي‭ ‬نريد‭ ‬الرحيل‭ ‬خوفا‭ ‬على‭ ‬سلامة‭ ‬العائلة‭. ‬كانت‭ ‬شروطه‭ ‬بان‭ ‬نذهب‭ ‬بسيارتين‭ ‬انا‭ ‬في‭ ‬سيارة‭ ‬والأولاد‭ ‬بسيارة‭ ‬ثانية‭ ‬وبرر‭ ‬ذلك‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬نثير‭ ‬الشبهات،‭ ‬لكني‭ ‬توجست‭ ‬شرا‭ ‬من‭ ‬كلامه‭ ‬ولم‭ ‬أطمئن‭ ‬له،‭ ‬وتظاهرت‭ ‬بأني‭ ‬وافقت‭ ‬على‭ ‬شروطه‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬ينكشف‭ ‬امري‭. ‬وقلت‭ ‬له‭ ‬بأن‭ ‬يأتي‭ ‬غدا‭ ‬في‭ ‬السابعة‭ ‬صباحا‭ ‬لنقلنا‭ ‬وكنت‭ ‬اثني‭ ‬عليهم‭ ‬وانا‭ ‬اودعهم‭ ‬للباب‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬اترك‭ ‬أي‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬نفوسهم‭. ‬لكني‭ ‬كنت‭ ‬متأكدة‭ ‬بأنه‭ ‬فخ‭ ‬وهو‭ ‬يحاول‭ ‬اخذ‭ ‬الشباب‭ ‬مني‭ ‬للدواعش‭. ‬وحال‭ ‬مغادرتهم‭ ‬اتصلت‭ ‬بشخص‭ ‬آخر‭ ‬لديه‭ ‬سيارة‭ ‬رباعية‭ ‬الدفع‭ ‬ومن‭ ‬المعجزات‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬جاهزا‭ ‬للسفر‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭.”‬

صعدوا‭ ‬السيارة‭ ‬على‭ ‬عجل‭ ‬بعد‭ ‬ظهر‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬متوجهين‭ ‬في‭ ‬طريقا‭ ‬محفوفا‭ ‬بالمخاطر‭ ‬ومليئا‭ ‬بعصابات‭ ‬داعش‭ ‬الذين‭ ‬يبحثون‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬ضحاياهم‭.‬‭ ‬

‭”‬لكي‭ ‬لا‭ ‬نثير‭ ‬أي‭ ‬شكوك‭ ‬لدى‭ ‬نقاط‭ ‬التفتيش‭ ‬التي‭ ‬أقامها‭ ‬الدواعش‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الطريق،‭ ‬اخذت‭ ‬معي‭ ‬بنتي‭ ‬وحفيداتي‭ ‬وزوجة‭ ‬ابني‭ ‬كي‭ ‬نبدو‭ ‬عائلة‭. ‬أجلست‭ ‬النساء‭ ‬بمحاذاة‭ ‬النوافذ‭ ‬كي‭ ‬يحجبن‭ ‬الرؤية‭ ‬عن‭ ‬الجنود‭. ‬أثناء‭ ‬مكوثهم‭ ‬معنا،‭ ‬كلفت‭ ‬اولادي‭ ‬بتزوير‭ ‬بطاقات‭ ‬شخصية‭ ‬وهويات‭ ‬طلبة‭ ‬جامعيين‭ ‬لهم‭ ‬بأسماء‭ ‬ابنائي‭ ‬فقد‭ ‬تنفعنا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحرج،‭ ‬وبالفعل‭ ‬جاء‭ ‬يومها‭ ‬الآن‭. ‬لقنتهم‭ ‬أسماء‭ ‬بنات‭ ‬العائلة‭ ‬وأين‭ ‬ذاهبين‭ ‬وأتفقنا‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأجوبة‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬يسألنها‭ ‬الدواعش‭ ‬في‭ ‬الطريق‭. ‬بدأنا‭ ‬رحلتنا‭ ‬ظهرا،‭ ‬كانت‭ ‬تشق‭ ‬السيارة‭ ‬طريقها‭ ‬ببطء‭ ‬بين‭ ‬ازقة‭ ‬العلم‭ ‬التي‭ ‬أعرفها‭ ‬جيدا،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يبدو‭ ‬لي‭ ‬غريب،‭ ‬وجوه‭ ‬الأرهابيين‭ ‬ولحاهم‭ ‬النتنة،‭ ‬ملبسهم‭ ‬الغريب‭ ‬ونظراتهم‭ ‬الوقحة‭ ‬كانت‭ ‬تثير‭ ‬الأشمئزاز‭ ‬بداخلي‭. ‬لايشبهون‭ ‬العراقيين‭ ‬بأشكالهم‭ ‬ولابتصرفاتهم،‭ ‬بدوا‭ ‬وكأنهم‭ ‬هبطوا‭ ‬من‭ ‬كوكب‭ ‬آخر‭. ‬كانوا‭ ‬يملأون‭ ‬الطرقات‭ ‬بأسلحتهم‭ ‬الثقيلة‭ ‬وسياراتهم‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬رايات‭ ‬داعش‭ ‬وتشق‭ ‬الطريق‭ ‬بسرعة‭ ‬دون‭ ‬اكتراث‭ ‬للمارة،‭ ‬وحين‭ ‬ابتعدنا‭ ‬حوالي‭ ‬نصف‭ ‬كيلومتر‭ ‬عن‭ ‬بيتنا،‭ ‬صرخ‭ ‬بنا‭ ‬احد‭ ‬الأرهابيين‭ ‬وأشار‭ ‬لنا‭ ‬بسلاحه‭ ‬ان‭ ‬نتوقف،‭ ‬وبكل‭ ‬هدوء‭ ‬انزلت‭ ‬النافذة‭ ‬وقلت‭ “‬الله‭ ‬ينصركم‭ ‬يا‭ ‬اولادي،‭ ‬فرد‭ ‬احدهم‭ ‬بسرعة‭ “‬الله‭ ‬معكم،‭” ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬المعجزة‭ ‬الأولى،‭ ‬لأن‭ ‬المنطقة‭ ‬تعرف‭ ‬وجوه‭ ‬ابنائي‭ ‬جيدا‭. ‬لا‭ ‬اخفي‭ ‬بأننا‭ ‬كنا‭ ‬خائفين‭ ‬جدا‭ ‬وانا‭ ‬وضعت‭ ‬بناتي‭ ‬امام‭ ‬خطر‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬موت‭ ‬أمل‭ ‬النجاة‭ ‬بها‭ ‬ضعيف‭ ‬جدا،‭ ‬لكني‭ ‬كنت‭ ‬مؤمنة‭ ‬بأننا‭ ‬ليس‭ ‬لوحدنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة،‭ ‬بل‭ ‬الله‭ ‬ودعوات‭ ‬امهاتهم‭ ‬معنا‭. ‬وبعد‭ ‬عبور‭ ‬نقطة‭ ‬التفتيش،‭ ‬دب‭ ‬صمتا‭ ‬قاتلا‭ ‬داخل‭ ‬السيارة‭ ‬فحاولت‭ ‬ان‭ ‬اكسره‭ ‬بشتم‭ ‬داعش‭ ‬واطلاق‭ ‬قهقهة‭ ‬وأدرت‭ ‬وجهي‭ ‬نحو‭ ‬الشباب‭ ‬وقد‭ ‬بادلوني‭ ‬الضحكة‭ ‬الممزوجة‭ ‬بالقلق‭ ‬والخوف‭. ‬تكرر‭ ‬مشهد‭ ‬نقطة‭ ‬التفتيش‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭ ‬خلال‭ ‬الرحلة،‭ ‬وكنا‭ ‬نقرأ‭ ‬القرآن‭ ‬والأدعية‭ ‬بعد‭ ‬اجتياز‭ ‬كل‭ ‬نقطة‭ ‬تفتيش‭.”‬

ولم‭ ‬تمر‭ ‬الرحلة‭ ‬دون‭ ‬مفاجآت‭ ‬كادت‭ ‬تودي‭ ‬بحياتهم،‭ ‬اذ‭ ‬بعد‭ ‬عبور‭ ‬مناطق‭ ‬داعش‭ ‬ووصولهم‭ ‬لأول‭ ‬نقطة‭ ‬تفتيش‭ ‬للبيشمركة‭ ‬في‭ ‬مدخل‭ ‬كركوك،‭ ‬حدث‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬الحسبان‭. ‬

‭”‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عبرنا‭ ‬مناطق‭ ‬داعش،‭ ‬شعرنا‭ ‬بالأرتياح،‭ ‬وجلسنا‭ ‬بصورة‭ ‬طبيعية‭ ‬وكأننا‭ ‬عائلة‭ ‬نازحة‭ ‬من‭ ‬مناطق‭ ‬داعش‭. ‬كان‭ ‬جنود‭ ‬البيشمركة‭ ‬دقيقين‭ ‬ومهنيين‭ ‬جدا‭ ‬في‭ ‬الفحص‭ ‬والتدقيق،‭ ‬سأل‭ ‬احد‭ ‬افراد‭ ‬السيطرة‭ ‬احد‭ ‬الشباب‭: “‬ما‭ ‬أسمك‭” ‬لكن‭ ‬علي‭ ‬هادي‭ ‬ومن‭ ‬شدة‭ ‬هول‭ ‬ما‭ ‬مر‭ ‬به‭ ‬كان‭ ‬مرتبكا‭ ‬ولايعرف‭ ‬ان‭ ‬يجيب‭! ‬فهمست‭ ‬له‭ ‬ابنتي‭ ‬ان‭ ‬يقول‭ “‬عبد‭ ‬الله‭ ‬إسماعيل‭ ‬عبد‭ ‬الله‭” ‬لكن‭ ‬جاء‭ ‬السؤال‭ ‬الثاني‭ “‬أي‭ ‬سنة‭ ‬دراسية‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭” ‬وهنا‭ ‬جميعنا‭ ‬نسينا‭ ‬الأجابة‭! ‬مما‭ ‬زاد‭ ‬شك‭ ‬الجندي‭ ‬وقال‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬الهوية‭ ‬مزورة‭ ‬واراد‭ ‬ان‭ ‬ينزله‭ ‬من‭ ‬السيارة،‭ ‬أي‭ ‬لايسمح‭ ‬له‭ ‬دخول‭ ‬كركوك‭ ‬مما‭ ‬يجبره‭ ‬على‭ ‬العودة‭ ‬للمناطق‭ ‬التي‭ ‬يسيطر‭ ‬عليها‭ ‬داعش‭. ‬حينها‭ ‬ضربت‭ ‬رأسي‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬السيارة‭ ‬وبدأ‭ ‬الدم‭ ‬يجري‭ ‬وبناتي‭ ‬بدأن‭ ‬بالصراخ‭ ‬والعويل‭ ‬فسأل‭ ‬الضابط‭ ‬ماذا‭ ‬حدث‭ ‬فردت‭ ‬أبنتي‭ ‬بأن‭ ‬نسبة‭ ‬السكر‭ ‬ارتفعت‭ ‬واغمى‭ ‬عليها‭ ‬وضربت‭ ‬الباب،‭ ‬رأف‭ ‬الضابط‭ ‬بحالنا‭ ‬واعاد‭ ‬الهوية‭ ‬لنا‭ ‬وقال‭ ‬لعلي‭ ‬أذا‭ ‬كانت‭ ‬هويتك‭ ‬مزورة‭ ‬فسوف‭ ‬تلقي‭ ‬عليك‭ ‬القبض‭ ‬نقاط‭ ‬التفتيش‭ ‬داخل‭ ‬كركوك،‭ ‬اسرع‭ ‬وخذ‭ ‬امك‭ ‬للمستشفى‭ ‬الآن‭!” ‬

المسافة‭ ‬بين‭ ‬ناحية‭ ‬العلم‭ ‬وحدود‭ ‬محافظة‭ ‬كركوك‭ ‬تستغرق‭ ‬ساعة‭ ‬ونصف‭ ‬في‭ ‬السيارة،‭ ‬وربما‭ ‬اخذت‭ ‬ساعتين‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬بسبب‭ ‬كثرة‭ ‬التوقفات،‭ ‬لكن‭ ‬بالنسبة‭ ‬لأم‭ ‬قصي‭ ‬ومن‭ ‬معها‭ ‬كانت‭ ‬أطول‭ ‬رحلة‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭. ‬

‭”‬بعد‭ ‬ان‭ ‬وصلنا‭ ‬كركوك‭ ‬كانت‭ ‬الشمس‭ ‬تتجه‭ ‬نحو‭ ‬الغروب،‭ ‬وخرجت‭ ‬آخر‭ ‬السيارات‭ ‬نحو‭ ‬بغداد‭ ‬في‭ ‬الصباح‭. ‬بدأت‭ ‬الحيرة‭ ‬علينا،‭ ‬حيث‭ ‬توجب‭ ‬علينا‭ ‬المبيت‭ ‬في‭ ‬كركوك‭. ‬ولا‭ ‬استطيع‭ ‬تركهم‭ ‬في‭ ‬كركوك‭ ‬لخوفي‭ ‬عليهم‭. ‬اتصلت‭ ‬بصديقتي‭ ‬التركمانية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬كركوك‭ ‬وأخبرتها‭ ‬بتفاصيل‭ ‬القصة‭ ‬وطلبت‭ ‬مساعدتها‭.‬‭ ‬فكانت‭ ‬نعم‭ ‬الصديقة‭ ‬الوفية،‭ ‬رحبت‭ ‬بنا‭ ‬وجهزت‭ ‬لهم‭ ‬غرفة‭ ‬للمبيت‭ ‬واتصلت‭ ‬بسائق‭ ‬تعرفه‭ ‬وتثق‭ ‬به‭ ‬ليأخذهم‭ ‬عند‭ ‬الصباح‭ ‬لبغداد،‭ ‬فودعتهم‭ ‬وعدت‭ ‬للعلم‭.”‬

تم‭ ‬تكريمها‭ ‬بوسام‭ ‬الوطن‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الحكومة‭ ‬العراقية،‭ ‬كما‭ ‬ونالت‭ ‬جائزة‭ ‬أقوى‭ ‬عشر‭ ‬نساء‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وقدمت‭ ‬لها‭ ‬الجائزة‭ ‬العالمية‭ ‬السيدة‭ ‬ملانيا‭ ‬ترامب‭. ‬أبتسمت‭ ‬ام‭ ‬قصي‭ ‬وهي‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬شعورها‭ ‬على‭ ‬ماقامت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬موقف‭ ‬وطني‭ ‬وانساني‭.‬

‭”‬انا‭ ‬فخورة‭ ‬لأني‭ ‬استطعت‭ ‬ان‭ ‬انقذ‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشباب‭ ‬وان‭ ‬اثبت‭ ‬للعالم‭ ‬بأن‭ ‬العراقيين‭ ‬يحبون‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬الأنتماء‭ ‬الطائفي‭ ‬والعرقي‭. ‬حين‭ ‬نخرج‭ ‬خارج‭ ‬العراق‭ ‬جنسيتي‭ ‬تقول‭ ‬انا‭ ‬عراقية‭ ‬دون‭ ‬ذكر‭ ‬الدين‭ ‬والعرق‭ ‬والطائفة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعلنا‭ ‬فخورين‭ ‬بانتمائنا‭ ‬الوطني‭ ‬لمهد‭ ‬الحضارات،‭ ‬آويت‭ ‬في‭ ‬بيتي‭ ‬أيزيدي‭ ‬ولم‭ ‬أعرف‭ ‬انه‭ ‬أيزيدي‭ ‬وآويت‭ ‬المسيحي‭ ‬والمسلم‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬أسال‭ ‬عن‭ ‬دينه،‭ ‬كل‭ ‬الذي‭ ‬أعرفه‭ ‬انهم‭ ‬أبناء‭ ‬شعبي‭ ‬وبحاجة‭ ‬لي‭. ‬صحيح‭ ‬كان‭ ‬بيتي‭ ‬صغيرا‭ ‬لكن‭ ‬قلبي‭ ‬كبيرا‭ ‬ويتسع‭ ‬لهم‭ ‬جميعا‭.”‬

انتشرت‭ ‬قصة‭ ‬ام‭ ‬قصي‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬الشعب‭ ‬العراقي،‭ ‬وتناقلتها‭ ‬مجالس‭ ‬النساء‭ ‬والرجال‭ ‬بكل‭ ‬فخر‭. ‬

‭”‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬المعارك‭ ‬وتحرير‭ ‬المدن‭ ‬جاء‭ ‬الشباب‭ ‬لزيارتي‭ ‬في‭ ‬بيتي،‭ ‬خرجت‭ ‬لهم‭ ‬والدموع‭ ‬تنهمر‭ ‬فرحا‭ ‬لسلامتهم‭. ‬شعرت‭ ‬وكأن‭ ‬ولدي‭ ‬قصي‭ ‬وزوجي‭ ‬الذين‭ ‬قتلتهم‭ ‬داعش‭ ‬جاؤوا‭ ‬لزيارتي‭. ‬شعرت‭ ‬باني‭ ‬فارقت‭ ‬ابنائي‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬واليوم‭ ‬عادوا‭ ‬لأحضاني‭. ‬أتمنى‭ ‬ان‭ ‬تشعر‭ ‬بما‭ ‬شعرت‭ ‬به‭ ‬اليوم‭ ‬كل‭ ‬أم‭ ‬عراقية‭ ‬فاقدة‭ ‬ولدا‭ ‬او‭ ‬زوجا‭. ‬منذ‭ ‬عودتي‭ ‬بعد‭ ‬تحرير‭ ‬ناحية‭ ‬العلم،‭ ‬أذهب‭ ‬صباح‭ ‬كل‭ ‬جمعة‭ ‬لزيارة‭ ‬مكان‭ ‬مجزرة‭ ‬سبايكر،‭ ‬وأضع‭ ‬الزهور‭ ‬وأقرأ‭ ‬الفاتحة‭ ‬على‭ ‬ارواحهم‭ ‬الطاهرة‭. ‬أعرف‭ ‬بأن‭ ‬امهاتهم‭ ‬البعيدات‭ ‬لا‭ ‬يستطعن‭ ‬زيارتهم،‭ ‬فأنا‭ ‬أقوم‭ ‬بدور‭ ‬كل‭ ‬الأمهات‭ ‬الحنونات‭ ‬بزيارتهم‭. ‬أنهم‭ ‬أبناؤنا‭ ‬ورفعوا‭ ‬رؤوسنا‭ ‬وحافظوا‭ ‬على‭ ‬شرف‭ ‬العراق‭.” 

التعليقات مغلقة.