تحت المجهر عملية إنقاذ من موت محقق بواسطة Unipath في فبراير 11, 2019 شارك Facebook Twitter موقف بطولي قام به رجال الجيش العراقي بإنقاذ حياة طفلة لم تتجاوز الـ 4 سنوات بعد أن قتل الدواعش كل أفراد عائلتها في الموصل أسرة يونيباث في ذروة معارك تحرير الموصل ووصول جحافل اللواء الآلي 36 التابع للفرقة المدرعة التاسعة إلى خط داعش الدفاعي، نشر الإرهابيون القناصين والمفخخات وفرق الانتحاريين في مستشفى متعدد الطوابق في منطقة الزنجيلي. كان موقع المستشفى يسيطر على كل طرق المدينة، مما مكن الإرهابيين من إعاقة تقدم القوات العراقية واستهداف المدنيين الفارين من مناطق القتال. في هذه الأثناء، رصد الجنود ما بين 150 إلى 200 مدني – معظمهم من النساء والأطفال – يحتمون بجدران الأزقة الضيقة متجهين نحو موقع القوة. أصدر آمر الوحدات العسكرية الأوامر بسرعة: أوقفوا إطلاق النار! لإفساح الطريق للنازحين! لكن الدواعش لايملكون أخلاق الرجال ولايكترثون لحياة الأبرياء، إذ فتحوا نيران أسلحتهم من ثقوب القناصين ومن مخابئهم على العوائل الهاربة من جحيم المعركة بلا رحمة وفي غضون دقائق أردوا جميع المدنيين قتلى. ”كانت صدمتنا كبيرة حين فتح الإرهابيون نيران أسلحتهم لقتل هؤلاء الأبرياء العزل.” هذا ماقاله العميد مصطفى صباح العزاوي، آمر اللواء 36 المدرع، وهو يتذكر تفاصيل تلك الجريمة. بعد نصف ساعة من وقوع الجريمة، كان العميد مصطفى العزاوي ورجاله يراقبون الموقف ورصدوا وجود طفلة بين جثث القتلى. كانت وحيدة بين القتلى وتعيش لحظات الرعب من هول المشهد وترتجف من برودة ذلك الصباح. مرت ليلتان مرعبة، غطاهما البرد القارس وهذه الطفلة الصغيرة تنام لحظات لتنهض مذعورةعلى صوت تبادل إطلاق النار والقصف، ثم يعيدها الخوف والإرهاق والظلام تحت عباءة أمها المضرجة بدمائها ومن حولها جثة أبيها وأخواتها وأعمامها وعماتها. قرر العميد مصطفى العزاوي ورجاله إنقاذ هذه الطفلة مهما كلف الثمن. وبعد نقاش للخطة وتفاصيلها تقدم جنود من اللواء 36 دخول منطقة القتل وإنقاد هذه الطفلة البريئة. عرف فيما بعد العميد مصطفى وجنوده أن هذه الطفلة اليتيمة لم تبلغ سن الرابعة بعد واسمها “طيبة.” برغم المعوقات التي تواجهه القوة، وسيطرة الإرهابيين على المواقع الاستراتيجية المسيطرة على المكان، تقدمت القوة التي يشرف عليها العميد مصطفى شخصياً. “أمرت بتقدم دبابة أبرامز ومدرعات وبكثافة نارية لإسكات مصادر نيران العدو وبدعم جوي من قبل قوات التحالف. كان من ضمن المجموعة فريق طبي تابع لإحدى المنظمات غير الحكومية الأمريكية، حيث تبرع السيد ديفد بمصاحبة الجنود وتقديم الإسعافات الأولية في حالة تعرض أحدهم لإصابة ومعالجة أي إصابة بين المدنيين، وعند اقترابنا من مكان الجثث، ضربنا قنابل دخانية لحجب الرؤية عن قناصين الدواعش، وبسرعة فائقة انتشل جنودي هذه البنت الصغيرة وتأكدوا من عدم وجود أي جريح بحاجة لإنقاذ بين الجثث وانسحبت المدرعات بسلام.” إن معرفة وجود طفلة تنام بين جثث عائلتها ليلتين مرعبتين أمرٌ لا يمكن أن يستوعبه العقل البشري، لكن رؤية منظرها بملابسها الممزقة والمليئة بالدماء، ومشاهدة الرعب والحزن في نظراتها البريئة كان وقعه أكبر بكثير. ”عندما أنزلها الجنود من المدرعة ورأيتها للوهلة الأولى، كانت ملابسها مليئة بالدماء المتخثرة، وتعيش صدمة كبيرة لهول ما مرت به. لم امتلك مشاعري أمام براءتها التي تبحث في وجوهنا عن أهلها. بدأت دموعي تنهمر بطريقة لاشعورية وأنا أضمها لصدري. مكثت في مقر اللواء خمسة أيام، كنت أتوسل إليها أن تأكل لكنها تُعرض عن الطعام وتبكي كلما حاولنا ذلك.” ”لكن في اليوم الثالث وبعد غيابي عن المقر منذ الفجر، كانت تنتظرني في المساء وارتمت في أحضاني ووافقت أن تأكل معي. كانت فرحتي لا توصف لهذا التطور الإيجابي وأكلنا معا، وبدأت علاقة الأب والطفلة تنشأ بيننا. وفرت لها كل ما تحتاج وعاملتها كإبنتي الصغيرة فكانت لا تأكل إلا من يدي.” ”لكن نحن بصدد معركة شرسة والمقر ملئ بالأسلحة والجنود ولا يمكن أن تشعر بدفئ البيت والعائلة معنا، لذلك طلبت من إحدى العوائل قرب مقرنا بالاهتمام بالطفلة. كانت أم أيمن، السيدة التي تبرعت بالاهتمام بالطفلة، بمثابة الأم الرؤوم لها، تعاملها كمعاملة أطفالها.” استمر العميد مصطفى بتناول وجبة العشاء في مقر القيادة يومياً مع طيبة، وفي إحدي الليالي شعر بأعراض مقلقة على صحتها. “برغم موافقتها على الأكل، كانت تأكل قليلاً ويحدث انتفاخ في أمعائها وتصعد حرارتها. لذلك استعنت بالسيد فيكتور ماكس، مدير منظمة “كل شيء ممكن بوجود الله” الأمريكية والذي أرسلها لمستشفى في أربيل حيث مكثت أسبوع في أربيل، وبعد تحسن حالتها رجعت لتعيش معنا ثلاثة شهور وأصبحت محط اهتمام الجنود الذين يلاعبونها ويغمرونها بالحنان الأبوي. عاشت معنا كل معاناتنا وانتصاراتنا. كنت أنا “بابا” بالنسبة لها وتشعر بالأمان بوجودي معها. كنت أوفر لها وللعائلة المضيفة كل ما يحتاجونه من ماء وطعام.” حكاية السيدة أم أيمن تعبر عن الكرم العراقي الذي لا يعرف حدود، وهي تسرد قصتها مع طيبة. ”ذات صباح سمعت طرقاً على الباب، وحين فتحت كان أمامي العميد مصطفى العزاوي آمر اللواء الذي مقره قريبا منا وبين يديه الطفلة التي أصبحت قصتها حديث الساعة منذ الأمس، حيث أنقذها أبطال اللواء 36. إن قصة هذه البنت المنكودة تعصر القلب حزناً وألماً. فجريمة داعش اللاإنسانية بقتل أهلها جريمة ليس لها مثيل والإسلام منها برئ.” قال لي العميد:” أم أيمن أنت أفضل من يعتني بهذه الفتاة لما عرفت عن عائلتكم من الجيران. كما تعرفين بأننا جيش ولا يمكن أن نوفر لها الحنان أو نهتم بها مثلما تهتم بها أم وأرجو ان تقبلي مساعدتي.” ابتسمت أم أيمن وواصلت الحديث: ”شعرت بالسعادة لما قاله العميد ورأيت في نظرات طيبة حاجتها لأم ووافقت على الفور. كانت ملابسها رثة وقطعة من الدم ،وشعرها ملئ بالتراب والدماء اليابسة، ولا تتكلم فقط تبكي وفي عينيها خوف كبير. بدأت بتحميمها لتنظيف جسدها من الدم والطين وألبستها ملابس جديدة حيث شعرت ببعض الارتياح. وبدأنا علاقة أم وطفلة منذ تلك اللحظة. كان جنود العميد مصطفى يوصلون لنا الملابس الجديدة والمواد الغذائية حتى نتمكن من توفير الطعام لها أثناء تلك الظروف العصيبة وشحة الماء والطعام بسبب المعارك. لم أرى في حياتي رجالاً كرماء وشجعان كأبناء جيشنا البطل، لقد كانوا يبكون لبكاءها ويحاولون بكل الطرق الاعتناء بها. كل يوم يجلبون لها بعض الحلويات ويسألون اذا كنا بحاجة الى أي شيء. لقد شعرت بالفخر والسعادة في وجودهم.” لكن حكاية طيبة والبحث عن أقارب لها أصبحت الشغل الشاغل للعميد مصطفى، لأنه على يقين بأن من الصعب توفير الحب والحنان للطفلة كما يوفره لها أهلها. قال العميد: “برغم علمي المسبق بأن الأب والأم والأشقاء والأعمام جميعهم قتلوا في ذلك اليوم ولا يوجد أحد من أهلها على قيد الحياة. لكني كنت أحملها وأسير في أزقة الزنجيلي لعلي أجد أحدا من أهلها. نشرت صورها من خلال الإعلام وعلى صفحات التواصل الإجتماعي. كان هدفي هو إيجاد أقربائها. كنت على استعداد لتبنيها، وقد طلب كثير من منتسبي اللواء تبنيها، لكن لا يمكن لها أن تجد الدفئ والحنان إلا بين أهلها.” مسح دموعه بيده وأكمل الحديث. بنفس المجال كانت أم أيمن تعمل لإيجاد أحد بين الجيران يعرف طيبة. ”كنت آخذها معي لزيارة بعض الجيران الذين لم يتركوا المنطقة، وأتحدث لهم عنها لعلهم يعرفون أحداً من أقاربها في مكان ما. كنت كلما سمعت خبر أبلغ به العميد مصطفى الذي كان يراني كل مساء بعد عودته من المعارك. وكان جميع الجيران يعملون لمساعدة هذه الطفلة.” ويكمل العميد مصطفى كيف وضع قصة وصور طيبة على صفحات التواصل الإجتماعي، وعلى قنوات الإعلام العراقي وذهب يطرق أبواب أحياء الزنجيلي يسأل عن من يعرفها. ”بعد ثلاثة شهور على وجود طيبة بيننا، تعودت على طريقة الحياة مع الجنود. كان طباخي بهو الضباط في مقر اللواء يعرفون وجبتها المفضلة، وكانوا يتسابقون لتوفير ماتطلب. بدأت تبتسم لملاطفتهم وبعض الأحيان تشاركهم اللعب. وأحبت عائلة أم أيمن كثيراً. تحررت الموصل من رجس الإرهاب، لكن ما زالت غصة حزن في قلبي كلما نظرت لطيبة ورأيت الخوف من المستقبل في عينيها. كنت على يقين بأننا لن نبقى في هذا الموقع لفترة طويلة، وربما سنتحرك لقتال داعش في جبهات أخرى، فكيف سآخذ طيبة، وهل ستقبل بأن تعيش مع عائلة أخرى غير أم أيمن في مكان آخر. في هذه الفترة، اتصلت بي عائلة من محافظة ديالى، وقالوا بأنهم بيت خالتها، وجاء زوج الخالة من ديالى للموصل للقائي، لكني ترددت بتسليمها لعدم وجود مستمسكات رسمية ولأني رأيت طيبة تتعامل معه وكأنها تراه للمرة الأولى. بعد رفضي جاءني أحد شيوخ قبيلة عزة -التي أنتمي إليها والتي شاءت الصدفة أن تكون قبيلة أم طيبة أيضاً، وهو يعرف العائلة وقدم لي أكثر من دليل. وبرغم كل احترامي وتقديري له، رفضت تسلميها إلا أذا تعرفت البنت على العائلة. واتفقت معه أن يأتي بالخالة والجدة ونرى إذا تعرفت عليهم. وبالفعل تحملن عناء السفر الشاق من ديالى إلى الزنجيلي وجئن لمقر القيادة، وحين سقطت عينا طيبة على جدتها عرفتها واحتضنتها وبكت في أحضانها طويلا وكأنها تشكوا لها أو تعاتبها على تركها كل هذه الفترة. لقد اطمأنت هواجسي من أن هذه هي عائلتها وشعرت بارتياح كبير وحمدت الله على أننا أستطعنا إنقاذ هذه الطفلة من موت محقق على يد القتلة ولم نتركها للتشرد أو للقتل في ازقة الموصل. بل أدينا شرف الأمانة العسكرية وحافظنا على سلامة ابنة الوطن.” طيبة الآن تعيش مع بيت جدتها وسعيدة هناك. والعميد مصطفى ما زال على تواصل مستمر معهم. ويتمنى أن تستطيع أن تنسيها ما مرت به وأن تجد الاهتمام من قبل منظمات المجتمع المدني لتقديم الرعاية والتأكد من عدم وجود حالة نفسية من الحادثة. ”سألني احد الصحفيين كيف أوفق بين قيادة المعركة والاهتمام بالطفلة، نحن عراقيين ونقاتل من أجل هذا الشعب الذي هو أهلنا، ونتأثر كثيراً لإراقة دماء الأبرياء. هذه الطفلة مرت بالكثير، وقصتها حزينة ومؤلمة. ونحن كعراقيين، لا يمكن أن لا نتفاعل مع مأساة هذه البنت البريئة. كنت أخرج للخطوط الأمامية عند الفجر وأعود عند المساء، يجلبوها لي، نتناول طعام العشاء معا. وبتوفيق من الله تمكنت أن اعتني بها وأقود المعركة في قاطع مسؤوليتي.” Facebook Twitter شارك
التعليقات مغلقة.