العميد جو حداد، القوات المسلحة اللبنانية
لبنان دولة صغيرة وسط بيئة جيواستراتيجية متوترة، ولا يسلم من جملة من التحديات الأمنية: الإرهاب، والحرب التقليدية، والتهديدات غير المتناظرة، والكوارث التي يسببها الإنسان، والهجرة الجماعية غير الشرعية والاتجار بالبشر، وتهريب البضائع والأسلحة والممنوعات. وكل هذه المشكلات تثقل كاهل حدوده البرية والبحرية.
يبلغ عدد سكان لبنان ما يُقدَّر بنحو 5.6 مليون نسمة، ويستضيف أكبر عدد من اللاجئين لكل فرد في العالم، بنحو 1.5 مليون لاجئ سوري بالإضافة إلى نحو 500,000 لاجئ فلسطيني يعيشون في مخيمات مكتظة.
وفي عام 2006، أهاب مجلس الأمن الدولي بالحكومة اللبنانية لتأمين حدودها وجميع معابرها لمنع الهجرة غير الشرعية والتهريب. وضع لبنان، ولا سيما القوات المسلحة اللبنانية، برامج لمراقبة الحدود مع شركاء دوليين. وساعدتنا كندا والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وسويسرا والولايات المتحدة في هذا الملف الحرج.
وأُنشئت في آب/أغسطس 2006 اللجنة المشتركة لأمن الحدود بمرسوم حكومي ووُضعت تحت القيادة المباشرة لنائب رئيس الأركان لعمليات الجيش اللبناني. وبالإضافة إلى مسؤولياتها العسكرية الأساسية، فإنَّ القوات المسلحة اللبنانية مكلفة بمراقبة الحدود البرية والبحرية وتأمينها. وتضطلع بدور بارز في حماية الحدود الريفية من خلال نشر أفواج الحدود البرية، ومنها الأنشطة المشتركة التي تجري في إطار القوة المشتركة لضبط الحدود على الحدود الشمالية مع سوريا.
كما توفر القوات المسلحة اللبنانية الأمن في المعابر الرسمية على الحدود الشمالية والشرقية، وفي المعابر البحرية وفي مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت. تتولى المديرية العامة للأمن العام والمديرية العامة للدفاع المدني إدارة وتنظيم المعابر البرية والبحرية الرسمية، بينما تنتشر قوى الأمن الداخلي في المستوى الثاني في المجتمعات الحدودية وفي مطار بيروت.
النشاطات الحدودية
شهد عام 2009 اللحظة التي تولى فيها لبنان إدارة شريطه الساحلي بطول 225 كيلومتراً وحدوده البرية بطول 375 كيلومتراً بالكامل. وتوجد ستة معابر شرعية مع سوريا: ثلاثة في الشمال، واثنان في الشمال الشرقي، وواحد في الشرق. أمَّا الحدود الجنوبية فهي مغلقة تماماً. وعلى سواحل لبنان ميناءان رئيسيان، بيروت وطرابلس؛ وميناءان صغيران في الجنوب: صيدا وصور؛ والكثير من موانئ الترفيه والصيد.
ما تزال بعض الأراضي الواقعة على طول الحدود البرية الشمالية والشرقية متنازع عليها منذ زمن الاستعمار مع جارتنا سوريا، بينما لم يتم بعد ترسيم الحدود البحرية الجنوبية والغربية والشمالية.
تتميز تضاريس الحدود البرية للبنان بأنها شديدة التنوع وتتعدد تداعياتها الأمنية، وتنطوي على أنواع مختلفة من التحديات لإجراء العمليات. وتقع منطقة عكار على الحدود الشمالية وتضم أكثر من 280 قرية وبلدة، وتمتد بعض القرى عبر الحدود.
وتشكل التركيبة السكانية تحدياً مماثلاً لأنَّ عكار تعد واحدة من أكثر المناطق الريفية حرماناً في لبنان على مر التاريخ، وأدت الحرب في سوريا ووصولها إلى طريق مسدود، وكذلك أزمة اللاجئين السوريين وتدفقهم الجماعي على المنطقة، إلى تفاقم الوضع الاقتصادي المحلي المتردي أصلا ، فكثرت الجريمة على الحدود، لا سيما الاتجار بالبشر.
تتميز الحدود الشرقية بالجبال الشاهقة والصحاري الجرداء والتضاريس الوعرة، وتحكم أهلها، مع قلة عددهم نسبياً، روابط عشائرية وقبلية تمتد على جانبي الحدود، فتتفاقم التحديات الأمنية.
الجيش اللبناني ومهمة الحدود
شهدت الـ 10 سنوات الماضية قيام لبنان بإنشاء أربعة أفواج حدودية تتولى مدرسة تدريب أفواج الحدود البرية تدريب أفرادها. وتطورت مهمتها على مر السنين من المراقبة والإبلاغ إلى الانتشار الكامل في المناطق الحدودية ولكل منها قطاع مسؤولية محدد للدفاع عن الحدود وإجراء عمليات فرض الاستقرار.
وعملاً بقرار مجلس الأمن الدولي رقم [1701]، يتواجد الجيش اللبناني بقوة في الجنوب، حيث يجري عمليات لفرض الاستقرار بالتعاون مع قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل).
المساعدات الدولية
في ضوء مختلف التحديات على الحدود وتنوع الأجهزة الأمنية المعنية – لا سيما تدخل وحدات الأمن العام والجمارك اللبنانية – كان من الضروري تنسيق الأنشطة لحسن استغلال الموارد وتنسيقها. وضعت الحرب الأهلية المؤسفة في سوريا ضغوطاً غير مسبوقة على أفواج الحدود التابعة للجيش اللبناني من حيث الهجرة غير الشرعية وما يصاحبها من جرائم عابرة للحدود. فأدركت القيادة العليا للجيش اللبناني ضرورة سد الثغرات التي تعتري الخبرات والمهارات والموارد.
فوضعت آلية محكمة بالتعاون مع الشركاء الدوليين. وعلى المستوى الاستراتيجي، وضع لبنان استراتيجية متكاملة لإدارة الحدود، وأعقبها بخطة عمل مفصلة تهتم بالتنسيق بين مختلف الأجهزة المعنية. وعلى المستوى العملياتي والتكتيكي، انصب التركيز على وضع مفهوم للعمليات والإطار القانوني المناسب للقوات المسلحة بحيث يدمج أفرعها المختلفة (أفواج الحدود البرية والقوات الجوية والبحرية وفوج مغاوير البحر والأمن السيبراني) وإعداد تدريب متخصص لأفواج الحدود البرية في ضوء نشرها في أماكن قاصية.
وكان الحل الصحيح والعملي عبارة عن مزيج من نموذج التدريب اللامركزي مع التدريب الميداني على أيدي فرق متخصصة في أفواج الحدود البرية وإنشاء مدرسة تدريب مركزي لأفواج الحدود البرية. ومن المأمول أن تغدو المدرسة، بمساعدة هولندا، مركزاً إقليمياً متميزاً سيوفر دعماً إضافياً لفرض الاستقرار على طول الحدود الأردنية والعراقية.
قام الاتحاد الأوروبي بتمويل وضع الاستراتيجية المتكاملة لإدارة الحدود وخطة العمل وأشرف على ذلك. واستغرق وضعها أكثر من عام بمشاركة الكثير من وزارات الحكومة اللبنانية والتزامها الكامل تجاهها، واعتمدت الحكومة اللبنانية الخطة الاستراتيجية للحدود في عام 2019 رغم كل الصعاب التي واجهتها.
وعلى المستوى العملياتي والتكتيكي، ومن حيث مراقبة الحدود، يوفر الجيش اللبناني القوة البشرية والخبرات البرية والهندسية، وتوفر بريطانيا العظمى الأساس لأبراج المراقبة والتدريب التكتيكي لرجال حرس الحدود، وتوفر الولايات المتحدة الإلكترونيات والخبرة لمراقبة الحدود على مدار 24 ساعة. وتشمل تكنولوجيا الكشف المتقدمة التي تستخدمها قوات الحدود راداراً وكاميرات وأجهزة استشعار، بعضها متنقل.
ويكمن الغرض العام من المشروع في دمج المعلومات المستمدة من الكاميرات والرادار الحدودي مع المعلومات التي جمعها مركز العمليات البحرية وأصول القوات الجوية والاتصالات اللاسلكية للقوات المسلحة اللبنانية ليقوم مركز معلومات العمليات المشتركة في مقر قيادة الجيش اللبناني بتحليلها.
وبالتوازي مع تلك الجهود، تدعم وكالة الدفاع الأمريكية المعنية بخفض التهديدات قيادة القوات المسلحة اللبنانية لتحسين مستوى التكامل بين أدوار ومهام مختلف الأجهزة المعنية لمواجهة التحديات الناجمة عن التهديدات الجوية والبحرية والبرية والسيبرانية. ومن السمات المميزة لهذه الوثيقة أنها تتبنى نهجاً يراعي المخاطر التي تهدد أمن الحدود وسلامتها، فيتوالى تحديثها مع تغير المخاطر وتطورها.
ونشرت القوات المسلحة الكندية فرق تدريب متمرسة في القطب الشمالي في مدرسة القتال الجبلي في جبال الأرز لتدريب وحدات الحدود البرية، ولا سيما الوحدات المنتشرة على الحدود الشرقية.
تكمن القيمة الأساسية لهذا النهج المتكامل في أن يفهم كل جهاز من أجهزة الدولة الأدوار المنوطة بالأجهزة الأخرى، وهذا يزيل الحواجز ويبني جسور التعاون. ويجري العمل بمفهوم الإدارة المتكاملة للحدود من خلال أنشطة بناء القدرات (التدريب، والتمارين العملية، والورش، واجتماعات الموائد المستديرة)، وتوريد المعدات الخاصة، وتجديد المباني، واستخدام أجهزة الكمبيوتر، وبرامج التبادل الدولي.
وكان لهولندا دور جبار في تمكين مدرسة تدريب أفواج الحدود البرية وتجهزها لتعزيز إدارة الحدود، إذ تسلط المدرسة الضوء على التعاون بين الأجهزة، والعمل بنهج حقوقي للنهوض بأمن الحدود، وتيسير التجارة وشفافية الإجراءات للحد من الفساد، وتساهم في استقرار المجتمعات الحدودية، ولا سيما المجتمعات التي تتحمل عبئاً كبيراً بإيواء المهجَّرين.
ووضع لبنان مشاريع مدنية-عسكرية بالتعاون مع منظمات غير حكومية محلية ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات قطاع الأمن. وتجدر الإشارة إلى المشروع السويسري الذي يدعم نهجاً حقوقياً يراعي الفروق بين الجنسين في إدارة الحدود والهجرة، والمشاركة الإيطالية في إعداد الدورات الأساسية للتعامل مع المواد الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية والمتفجرة خلال إجراءات الاستطلاع وإزالة التلوث للوحدات منتشرة على الحدود.
ونهضت لجنة مراقبة وضبط الحدود ومدرسة تدريب أفواج الحدود البرية بدور حيوي في تنفيذ الإدارة المتكاملة للحدود، فساهما في وضع خطط لحالات الطوارئ، وهو إنجاز كبير لتنسيق الاستجابة الأولى للأجهزة المعنية في أوقات الأزمات في نقاط العبور القانونية على طول الحدود الشمالية والشرقية. وتتعاون الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس) مع القوات المسلحة اللبنانية من خلال لجنة مراقبة وضبط الحدود لإجراء تدريب مشترك بين مختلف الأجهزة في نقاط العبور الرسمية، ومنها مطار بيروت الدولي.
شجع نجاح إدارة الحدود البرية على إطلاق مشروع مماثل يركز على المجال البحري يُسمى الإدارة البحرية المتكاملة. ومبعث ذلك تعدد التحديات الجسام التي يواجهها لبنان ومنها: مناطق الصراع الإقليمية، وضعف البنية التحتية البحرية، والجريمة المنظمة العابرة للحدود، والتلوث البحري، وانتشار الأسلحة، وحماية المواقع الأثرية المغمورة بالمياه، والاتجار بالبشر، والهجرة غير الشرعية مؤخراً.
وفي إطار الهدف العام لرفع القدرة على الصمود أمام الأزمات، أشرك لبنان المزيد من الوزارات في الدفاع عن المجال البحري، ومنها وزارات النقل والزراعة والصحة والاقتصاد والطاقة والخارجية. وساهمت فرنسا في إنشاء مركز بحث وإنقاذ بمقر قيادة البحرية اللبنانية في «قاعدة بيروت البحرية»، وتشارك ألمانيا في إعادة بناء القاعدة وتمويل مدرسة القوات البحرية اللبنانية الجديدة في «قاعدة جونيه البحرية».
وجدير بالذكر أنَّ الجيش اللبناني يعد الجهاز الأول بين الأجهزة الأمنية اللبنانية الذي أنشأ إدارة للمرأة لتحسين مستوى دمجها في القوات المسلحة. فقد عكست الخبرات العملية على الحدود الحاجة الماسة لإشراك العنصر النسائي في التعامل مع قضية الاتجار بالنساء بالدرجة الأولى. ونرجو لهذه الخطوة الكبرى نحو توسيع نطاق المشاركة في صفوف قواتنا المسلحة أن تلهم الأجهزة الأمنية الأخرى بأن تحذو حذونا.
الخاتمة
ومما يسترعي النظر أنَّ إدارة الحدود اللبنانية ظلت أولوية من أولويات شركائنا الدوليين في ظل التحديات السياسية والاقتصادية في لبنان والدمار الناجم عن انفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020. وتطور التعاون القائم على الثقة بين القوات المسلحة اللبنانية وكندا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وسائر الشركاء الأوروبيين، وظلت تلك الجهود تتضافر فسمحت بتعريف لبنان بالمعايير والممارسات الدولية.
تبلورت جوانب كثيرة من دعم مشروع الإدارة المتكاملة للحدود على مر السنين، من تنامي واتساع الإلمام بمفهوم إدارة الحدود إلى حسن استغلال المساعدات الدولية والتجهيزات والمرافق، وتطوير التدريب الداخلي الذي كان ركيزة قوية للنهوض بأمن الحدود.
اعتمدت الاستراتيجية على قدر كبير من التعاون الإيجابي والاحترام المتبادل الذي ساد بين المستفيدين الرئيسيين: الجيش اللبناني، وقوى الأمن الداخلي، والمديرية العامة للأمن العام، والجمارك اللبنانية، والمديرية العامة لأمن الدولة، والمديرية العامة للدفاع المدني، وفوج إطفاء بيروت. F
التعليقات مغلقة.