تغيير ثقافة العنف

عقود‭ ‬الحروب‭  ‬والويلات‭  ‬تركت‭ ‬ندوبها‭ ‬على‭ ‬جبين‭ ‬الشعب‭ ‬العراقي

الاستاذ‭ ‬الدكتور‭ ‬قاسم‭ ‬حسين‭ ‬صالح‭ ‬‭ ‬مؤسس‭ ‬ورئيس‭ ‬الجمعية‭ ‬النفسية‭ ‬العراقية

عانت‭ ‬أجيال‭ ‬من‭ ‬العراقيين‭- ‬على‭ ‬مدى‭ ‬الـ‭ ‬33‭ ‬عاماً‭ ‬الماضية‭ ‬–‭ ‬حروباً‭ ‬عسكرية‭ ‬وإرهابية‭ ‬وطائفية‭ ‬واقتصادية‭ ‬بشكل‭ ‬متواصل‭. ‬فبدءا‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1980،‭ ‬أخذت‭ ‬ثقافة‭ ‬العنف‭ ‬تشيع‭ ‬بين‭ ‬العراقيين‭ ‬وتثير‭ ‬في‭ ‬لاشعورهم‭ ‬الجمعي‭ ‬غريزة‭ ‬العدوان‭. ‬ولم‭ ‬تقتصر‭ ‬الحرب‭ ‬العراقية‭ ‬الايرانية‭ (‬1980-1988‭) ‬على‭ ‬الجيش‭ ‬النظامي،‭ ‬إنما‭ ‬عسكرت‭ ‬الناس‭ ‬فيما‭ ‬يسمى‭ ‬بالـ‭ (‬الجيش‭ ‬الشعبي‭) ‬حتى‭ ‬ما‭ ‬عاد‭ ‬بيت‭ ‬عراقي‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬عسكري‭ ‬أو‭ ‬منتسب‭ ‬لتشكيلات‭ ‬الجيش‭ ‬الشعبي،‭ ‬أو‭ ‬قوى‭ ‬الامن‭ ‬الداخلي،‭ ‬أو‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية‭ ‬الخاصة‭. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬أطفال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬فتحوا‭ ‬أعينهم‭ ‬على‭ ‬الكلاشينكوف‭ ‬يتمنطق‭ ‬بها‭ ‬آباؤهم،‭ ‬الدبابات‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬،أصوات‭ ‬قصف،‭ ‬رؤية‭ ‬مشهد‭ ‬صادم،‭ ‬إصابات‭ ‬،‭ ‬فقدان‭ ‬منزل،‭ ‬فقدان‭ ‬قريب،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬صور‭ ‬المعارك‭ ‬والجثث‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعرضها‭ ‬التلفاز‭ ‬في‭ ‬نشراته‭ ‬الاخبارية‭ ‬وعبر‭ ‬برنامج‭ ‬يومي‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬صور‭ ‬من‭ ‬المعركة‮»‬‭. ‬إن‭ ‬وصف‭ ‬آثار‭ ‬الحرب‭ ‬والعنف‭ ‬على‭ ‬الشباب‭ ‬يتطلب‭ ‬تحليلاً‭ ‬علمياً‭ ‬للشخصية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬مكوناتها‭ ‬الثلاثة‭: ‬السلوك‭ ‬والأفكار‭ ‬والانفعالات‭.‬

فعلى الصعيد‭ ‬النفسي،‭ ‬نجم‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬تأثيرين‭ ‬خطيرين‭ ‬كان‭ ‬الأول‭: ‬تراجع‭ (‬قيمة‭ ‬الحياة‭) ‬لدى‭ ‬العراقي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اعتاد‭ ‬رؤية‭ ‬النعوش‭ ‬وكثرة‭ ‬الضحايا‭ ‬التي‭ ‬بلغت‭ ‬المئات‭ ‬يوميا‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬1982‭. ‬والثاني‭: ‬تشكّل‭ ‬منظور‭ ‬معرفي‭ ‬لدى‭ ‬أطفال‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ (‬الشباب‭ ‬حالياً‭) ‬بأن‭ ‬العالم‭ ‬عدائي،‭ ‬وأن‭ ‬العنف‭ ‬هو‭ ‬الوسيلة‭ ‬الوحيدة‭ ‬للبقاء‭.‬

أطفال يسيرون بالقرب من مكان انفجار في وسط بعقوبة، إلى الشمال الشرقي من بغداد في آب/ أغسطس 2013.  رويترز
أطفال يسيرون بالقرب من مكان انفجار في وسط بعقوبة، إلى الشمال الشرقي من بغداد في آب/ أغسطس 2013. رويترز

وعلى‭ ‬الصعيد‭ ‬التربوي‭ ‬والسلوكي،‭ ‬أضعف‭ ‬اختفاء‭ ‬الآباء‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬القتال‭ ‬الانضباط‭ ‬الإيجابي‭ ‬لدى‭ ‬الأطفال‭ ‬الذين‭ ‬تُركوا‭ ‬بدون‭ ‬رموز‭ ‬للسلطة‭. ‬وأدى‭ ‬ضعف‭ ‬دور‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬التوجيه‭ ‬والإرشاد‭ ‬إلى‭ ‬قلّة‭ ‬الالتزام‭ ‬الأخلاقي‭ ‬لدى‭ ‬الأطفال‭. ‬وازداد‭ ‬ميل‭ ‬الاطفال‭ ‬نحو‭ ‬استخدام‭ ‬السلاح‭ ‬بتقليدهم‭ ‬لآبائهم‭ ‬المتمنطقين‭ ‬بالمسدسات‭ ‬والكلاشينكوف‭ ‬فيما‭ ‬تمت‭ ‬عسكرة‭ ‬المجتمع،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أساتذة‭ ‬الجامعات،‭ ‬لثماني‭ ‬سنوات‭ ‬متصلة‭ ‬من‭ ‬1980‭ ‬إلى‭ ‬1988‭.‬

لقد‭ ‬أثّرت‭ ‬حرب‭ ‬الثماني‭ ‬سنوات‭ ‬على‭ ‬التكوين‭ ‬السلوكي‭ ‬والإدراكي‭ ‬والانفعالي‭ ‬للأطفال‭. ‬وبعد‭ ‬سنة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب،‭ ‬دخل‭ ‬العراق‭ ‬حرباً‭ ‬كارثية‭ ‬أخرى‭ ‬عندما‭ ‬غزا‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الراحل‭ ‬صدّام‭ ‬حسين‭ ‬الكويت،‭ ‬في‭ ‬مثال‭ ‬تاريخي‭ ‬نادر‭ ‬لدولة‭ ‬تدخل‭ ‬حرباً‭ ‬كارثية‭ ‬بعد‭ ‬خروجها‭ ‬مباشرة‭ ‬من‭ ‬حرب‭ ‬كارثية‭ ‬أخرى‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬آثارها‭ ‬تعزيز‭ ‬وتعميق‭ ‬ثقافة‭ ‬العنف‭ ‬في‭ ‬جيل‭ ‬مراهقي‭ ‬تسعينات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬الذين‭ ‬فتحوا‭ ‬عيونهم‭ ‬في‭ ‬طفولتهم‭ ‬على‭ ‬مشاهد‭ ‬العنف‭ ‬في‭ ‬الثمانينات‭.‬

وجاء‭ ‬الحصار‭ ‬ليشكّل‭ ‬بسنواته‭ ‬الثلاث‭ ‬عشرة‭ (‬1990-2013‭) ‬إسناداً‭ ‬لخبرة‭ ‬العنف،‭ ‬حيث‭ ‬كثرت‭ ‬السرقات،‭ ‬وشاع‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬سرقة‭ ‬السيارات‭ ‬المصحوبة‭ ‬بالقتل‭. ‬ففي‭ ‬دراستين‭ ‬أجرينا‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬نزلاء‭ ‬سجن‭ ‬أبو‭ ‬غريب،‭ ‬والثانية‭ ‬على‭ ‬عصابة‭ ‬من‭ ‬ستة‭ ‬اشخاص،‭ ‬تبين‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬العامل‭ ‬الاقتصادي‭ ‬كان‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬الدراسة‭ ‬الأولى،‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬الانتقام‭ ‬هو‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬لدى‭ ‬أفراد‭ ‬العصابة‭. ‬وهذا‭ ‬يوصلنا‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬خطيرة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬جيل‭ ‬الشباب‭ ‬من‭ ‬العراقيين‭ ‬تعززت‭ ‬لديهم‭ ‬صورة‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬عدائي‭ ‬وظالم،‭ ‬وأن‭ ‬العنف‭ ‬وسيلة‭ ‬مطلوبة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬البقاء‭. ‬وصارت‭ ‬ممارسات‭ ‬التدمير‭ ‬والقتل‭ ‬والقتال‭ ‬أنماطاً‭ ‬اعتيادية‭ ‬للحياة‭ ‬اليومية‭ ‬وليست‭ ‬شذوذاً‭ ‬عن‭ ‬المألوف‭.‬

وهذا‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬استنتاج‭ ‬بأن‭ ‬الفتنة‭ ‬الطائفية‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬العراقيون‭ ‬فيما‭ ‬بين‭ ‬2006‭ ‬و‭ ‬2008‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬لتحدث‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الطريقة‭ ‬البشعة،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أعلى‭ ‬نسبة‭ ‬من‭ ‬المقاتلين‭ ‬مؤلفة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شاب‭ ‬شاهد‭ ‬الحرب‭ ‬والعنف‭ ‬في‭ ‬ثمانينات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬يقودنا‭ ‬الى‭ ‬استنتاج‭ ‬أن‭ ‬الاحتراب‭ ‬الطائفي‭ ‬الذي‭ ‬شهده‭ ‬العراق‭ ‬بين‭ ‬2006‭ ‬و‭ ‬2008‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬بتلك‭ ‬البشاعة،‭ ‬لولا‭ ‬أن‭ ‬النسبة‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬المتحاربين‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬ولدوا‭ ‬في‭ ‬الثمانينات‭ ‬وشهدوا‭ ‬الحرب‭ ‬العراقية‭ ‬الايرانية‭ ‬والحروب‭ ‬التي‭ ‬تلتها‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬تشبعوا‭ ‬بثقافة‭ ‬العنف‭ ‬واسترخصوا‭ ‬قيمة‭ ‬الحياة‭.‬

وبعد‭ ‬سقوط‭ ‬النظام‭ ‬في‭ ‬نيسان‭/ ‬إبريل‭ ‬2003،‭ ‬واصل‭ ‬العراقيون‭ ‬حياتهم‭ ‬وسط‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬العنف‭ ‬البشع‭. ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬تحول‭ ‬نفسي‭ ‬يحدث‭ ‬للعراقيين‭ ‬بُعيد‭ ‬مزاج‭ ‬الفرح‭ ‬الذي‭ ‬شاع‭ ‬بخلاصهم‭ ‬من‭ ‬الدكتاتورية‭ ‬ما‭ ‬يصلح‭ ‬أن‭ ‬نصوغه‭ ‬بنظرية‭ ‬هي‭: “‬إذا‭ ‬انهارت‭ ‬الدولة‭ ‬وتعطّل‭ ‬القانون‭ ‬وصارت‭ ‬الحياة‭ ‬فوضى،‭ ‬شاع‭ ‬الخوف‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬وتفرقوا‭ ‬الى‭ ‬مجاميع‭ ‬أو‭ ‬أفراد‭ ‬تتحكم‭ ‬بسلوكهم‭ ‬الحاجة‭ ‬الى‭ ‬البقاء‭. ‬تضطرهم‭ ‬أن‭ ‬يلجئوا‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬قوة‭ ‬أو‭ ‬جماعة‭ ‬تحميهم،‭ ‬ويحصل‭ ‬بينهما‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬العقد‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬الحماية‭ ‬المتبادلة‭”.‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬نظرية‭ ‬اجتماعية‭ ‬نفسية‭ ‬أخرى‭ ‬نصوغها‭ ‬بالآتي‭: “‬إن‭ ‬الولاءات‭ ‬المتعددة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الواحد،‭ ‬الذي‭ ‬ينهار‭ ‬فيه‭ ‬انتماء‭ ‬يوحّده‭ ‬طوعاً‭ ‬أو‭ ‬قسراً‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تتصارع‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬على‭ ‬السلطة،‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬دولة‭ ‬قوية‭ ‬أو‭ ‬نظام‭ ‬قوي‭”.‬

جلب‭ ‬التغيير‭ ‬عام‭ ‬2003‭ ‬معه‭ ‬مزيداً‭ ‬من‭ ‬التعقيدات‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العراقية‭ ‬الحديثة‭. ‬ففي‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬1921‭ ‬إلى‭ ‬2003،‭ ‬كانت‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العراقية‭ ‬بيد‭ ‬السّنة‭ ‬العرب،‭ ‬وفجأة‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬تمهيد‭ ‬ديمقراطي‭ ‬أو‭ ‬سلاسة‭ ‬في‭ ‬انتقال‭ ‬السلطة،‭ ‬حدث‭ ‬تبادل‭ ‬انقلابي‭ ‬للأدوار‭ ‬بحصول‭ ‬الشيعة‭ ‬على‭ ‬السلطة،‭ ‬فيما‭ ‬السّنة‭ ‬أزيحوا‭ ‬منها‭ ‬الى‭ ‬جبهة‭ ‬المعارضة‭ ‬في‭ ‬تبادل‭ ‬للأدوار‭ ‬يشبه‭ ‬في‭ ‬فعله‭ ‬النفسي‭ ‬تبادلها‭ ‬بين‭ ‬السيد‭ ‬والعبد‭. ‬ونجم‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬النظرية‭ ‬أيضاً‭ ‬هي‭: “‬أن‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬فيه‭ ‬طائفتان‭ ‬كبيرتان‭ ‬تستحوذ‭ ‬إحداهما‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬بمساعدة‭ ‬قوى‭ ‬خارجية،‭ ‬و‭ ‬تتعرض‭ ‬الأخرى‭ ‬إلى‭ ‬الاحباط‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والنفسي،‭ ‬فإن‭ ‬الحال‭ ‬بينهما‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬الاحتراب‭ ‬الطائفي‭”.‬

يتيم يتعلم العزف على الفلوت في أكاديمية كريم وصفي الموسيقية ببغداد.  رويترز
يتيم يتعلم العزف على الفلوت في أكاديمية كريم وصفي الموسيقية ببغداد. رويترز

لقد‭ ‬أحدثت‭ ‬هذه‭ ‬الخيبات‭ ‬المتلاحقة‭ ‬في‭ ‬الشباب‭ ‬العراقي‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التشوش‭ ‬الفكري،‭ ‬والقلق‭ ‬الوجودي،‭ ‬وانعدام‭ ‬معنى‭ ‬الحياة‭ ‬لديهم‭ ‬بمفهومه‭ ‬النفسي‭. ‬فالذين‭ ‬كانوا‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬الديمقراطية‭ ‬سوف‭ ‬تأتي‭ ‬بسلاسة‭ ‬وبسرعة‭ ‬بعد‭ ‬تحرر‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬الديكتاتورية،‭ ‬أُصيبوا‭ ‬بالخيبة‭ ‬لحصول‭ ‬العكس‭. ‬والذين‭ ‬توقعوا‭ ‬أن‭ ‬الذين‭ ‬انتخبوهم‭ ‬سيحققون‭ ‬احلامهم‭ ‬حين‭ ‬يتولون‭ ‬السلطة،‭ ‬تصرفوا‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬بفساد‭ ‬بمجرد‭ ‬توليهم‭ ‬السلطة‭. ‬فيما‭ ‬هم‭ ‬بين‭ ‬واقف‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬صباح‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬عمل‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬خريج‭ ‬جامعي،‭ ‬وبين‭ ‬من‭ ‬يعاني‭ ‬أمراضا‭ ‬نفسية‭: ‬اكتئاب،‭ ‬ويأس،‭ ‬وعزلة‭ ‬اجتماعية،‭ ‬وكراهية،‭ ‬واغتراب‭. ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬شيوع‭ ‬ظاهرتين‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬خطورتهما‭ ‬الاجتماعية‭ ‬عن‭ ‬الإرهاب،هما‭: ‬زيادة‭ ‬حالات‭ ‬الطلاق‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مسبوق،‭ ‬وتعاطي‭ ‬المخدرات‭ ‬بين‭ ‬المراهقين‭ ‬والشباب‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭. ‬ولقد‭ ‬نجم‭ ‬عن‭ ‬فشل‭ ‬إدارة‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬خلال‭ ‬سنوات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬التغيير‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬السياسي‭ ‬والخدمي‭ ‬والأمني،‭ ‬انحسار‭ ‬الاحساس‭ ‬بالهوية‭ ‬الوطنية،‭ ‬وضعف‭ ‬الشعور‭ ‬بالولاء‭ ‬للوطن،‭ ‬وتعددت‭ ‬الهويات‭ ‬والولاءات‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التعصب‭ ‬العشائري‭ ‬والمذهبي‭ ‬والقومي‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬معاش‭ ‬وجده‭ ‬الشباب‭ ‬يتناقض‭ ‬تماماً‭ ‬مع‭ ‬جوهر‭ ‬الديمقراطية‭. ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الاحساس‭ ‬بعدم‭ ‬الرضا،‭ ‬وشيوع‭ ‬ثقافة‭ ‬الكراهية،‭ ‬وتفكك‭ ‬الروابط‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وتوتر‭ ‬العلاقات‭ ‬الأسرية‭. ‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬الوصف‭ ‬لا‭ ‬ينطبق‭ ‬بصيغة‭ ‬التعميم‭ ‬على‭ ‬الشباب‭ ‬العراقي،‭ ‬فبينهم‭ ‬شرائح‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الأكاديميين‭ ‬والمثقفين‭ ‬والفنانيين‭ ‬والديمقراطيين‭ ‬يتمتعون‭ ‬بالصحة‭ ‬النفسية،‭ ‬ولديهم‭ ‬طموحات‭ ‬مشروعة‭ ‬يسعون‭ ‬الى‭ ‬تحقيقها،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬غالبيتهم‭ ‬ليس‭ ‬لديهم‭ ‬نشاط‭ ‬سياسي‭. ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬مستقبل‭ ‬العراق‭ ‬سيكون‭ ‬بيد‭ ‬الشباب‭ ‬فإن‭ ‬قادته‭ ‬سيكونون‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الذين‭ ‬انخرطوا‭ ‬حالياً‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬ومن‭ ‬الذين‭ ‬ولدوا‭ ‬في‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وتشبعوا‭ ‬بثقافة‭ ‬العنف‭ ‬والأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬أحدثتها‭ ‬حروب‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬التغيير‭ ‬والأخرى‭ ‬التي‭ ‬أصيبوا‭ ‬بها‭ ‬بعد‭ ‬التغيير،‭ ‬لاسيما‭ ‬البرانويا‭ ‬السياسية‭ ‬والتعصب‭ ‬الطائفي‭ ‬والإثني‭.‬

وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬مستقبل‭ ‬العراق‭ ‬معرض‭ ‬للخطر‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تُتخذ‭ ‬إجراءات‭ ‬عملية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬علمية‭.‬

وانطلاقا‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬القيم‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬الأهداف‭ ‬وتوجه‭ ‬السلوك،‭ ‬فإن‭ ‬التأكيد‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬استراتيجية‭ ‬لإشاعة‭ ‬ثقافة‭ ‬السلام‭ ‬ودعم‭ ‬الشباب‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المساواة‭ ‬وتوفير‭ ‬فرص‭ ‬العمل‭. 

Comments are closed.