عقود الحروب والويلات تركت ندوبها على جبين الشعب العراقي
الاستاذ الدكتور قاسم حسين صالح مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية
عانت أجيال من العراقيين- على مدى الـ 33 عاماً الماضية – حروباً عسكرية وإرهابية وطائفية واقتصادية بشكل متواصل. فبدءا من عام 1980، أخذت ثقافة العنف تشيع بين العراقيين وتثير في لاشعورهم الجمعي غريزة العدوان. ولم تقتصر الحرب العراقية الايرانية (1980-1988) على الجيش النظامي، إنما عسكرت الناس فيما يسمى بالـ (الجيش الشعبي) حتى ما عاد بيت عراقي ليس فيه عسكري أو منتسب لتشكيلات الجيش الشعبي، أو قوى الامن الداخلي، أو الأجهزة الأمنية الخاصة. وهذا يعني أن أطفال تلك الفترة فتحوا أعينهم على الكلاشينكوف يتمنطق بها آباؤهم، الدبابات في الشوارع ،أصوات قصف، رؤية مشهد صادم، إصابات ، فقدان منزل، فقدان قريب، فضلاً عن صور المعارك والجثث البشرية التي كان يعرضها التلفاز في نشراته الاخبارية وعبر برنامج يومي اسمه «صور من المعركة». إن وصف آثار الحرب والعنف على الشباب يتطلب تحليلاً علمياً للشخصية من حيث مكوناتها الثلاثة: السلوك والأفكار والانفعالات.
فعلى الصعيد النفسي، نجم عن ذلك تأثيرين خطيرين كان الأول: تراجع (قيمة الحياة) لدى العراقي بعد أن اعتاد رؤية النعوش وكثرة الضحايا التي بلغت المئات يوميا بعد عام 1982. والثاني: تشكّل منظور معرفي لدى أطفال تلك المرحلة (الشباب حالياً) بأن العالم عدائي، وأن العنف هو الوسيلة الوحيدة للبقاء.

وعلى الصعيد التربوي والسلوكي، أضعف اختفاء الآباء في ميدان القتال الانضباط الإيجابي لدى الأطفال الذين تُركوا بدون رموز للسلطة. وأدى ضعف دور المدارس في التوجيه والإرشاد إلى قلّة الالتزام الأخلاقي لدى الأطفال. وازداد ميل الاطفال نحو استخدام السلاح بتقليدهم لآبائهم المتمنطقين بالمسدسات والكلاشينكوف فيما تمت عسكرة المجتمع، بما في ذلك أساتذة الجامعات، لثماني سنوات متصلة من 1980 إلى 1988.
لقد أثّرت حرب الثماني سنوات على التكوين السلوكي والإدراكي والانفعالي للأطفال. وبعد سنة واحدة من انتهاء الحرب، دخل العراق حرباً كارثية أخرى عندما غزا النظام السابق في ظل الراحل صدّام حسين الكويت، في مثال تاريخي نادر لدولة تدخل حرباً كارثية بعد خروجها مباشرة من حرب كارثية أخرى. وكان من آثارها تعزيز وتعميق ثقافة العنف في جيل مراهقي تسعينات القرن العشرين، الذين فتحوا عيونهم في طفولتهم على مشاهد العنف في الثمانينات.
وجاء الحصار ليشكّل بسنواته الثلاث عشرة (1990-2013) إسناداً لخبرة العنف، حيث كثرت السرقات، وشاع في حينها سرقة السيارات المصحوبة بالقتل. ففي دراستين أجرينا الأولى على نزلاء سجن أبو غريب، والثانية على عصابة من ستة اشخاص، تبين لنا أن العامل الاقتصادي كان السبب الرئيس في الدراسة الأولى، فيما كان الانتقام هو السبب الرئيس لدى أفراد العصابة. وهذا يوصلنا إلى نتيجة خطيرة هي أن جيل الشباب من العراقيين تعززت لديهم صورة أن العالم عدائي وظالم، وأن العنف وسيلة مطلوبة من أجل البقاء. وصارت ممارسات التدمير والقتل والقتال أنماطاً اعتيادية للحياة اليومية وليست شذوذاً عن المألوف.
وهذا يؤدي إلى استنتاج بأن الفتنة الطائفية التي شهدها العراقيون فيما بين 2006 و 2008 ما كانت لتحدث بمثل هذه الطريقة البشعة، ما لم تكن أعلى نسبة من المقاتلين مؤلفة من كل شاب شاهد الحرب والعنف في ثمانينات القرن العشرين. إن هذا يقودنا الى استنتاج أن الاحتراب الطائفي الذي شهده العراق بين 2006 و 2008 ما كان له أن يحصل بتلك البشاعة، لولا أن النسبة الأكبر من المتحاربين كانوا من الشباب الذين ولدوا في الثمانينات وشهدوا الحرب العراقية الايرانية والحروب التي تلتها من الذين تشبعوا بثقافة العنف واسترخصوا قيمة الحياة.
وبعد سقوط النظام في نيسان/ إبريل 2003، واصل العراقيون حياتهم وسط حالة من العنف البشع. وكان أول تحول نفسي يحدث للعراقيين بُعيد مزاج الفرح الذي شاع بخلاصهم من الدكتاتورية ما يصلح أن نصوغه بنظرية هي: “إذا انهارت الدولة وتعطّل القانون وصارت الحياة فوضى، شاع الخوف بين الناس وتفرقوا الى مجاميع أو أفراد تتحكم بسلوكهم الحاجة الى البقاء. تضطرهم أن يلجئوا إلى مصدر قوة أو جماعة تحميهم، ويحصل بينهما ما يشبه العقد الذي يقوم على مبدأ الحماية المتبادلة”.
إن هذا الواقع أدى إلى ما يشبه نظرية اجتماعية نفسية أخرى نصوغها بالآتي: “إن الولاءات المتعددة في المجتمع الواحد، الذي ينهار فيه انتماء يوحّده طوعاً أو قسراً يفضي إلى أن تتصارع فيما بينها على السلطة، في غياب دولة قوية أو نظام قوي”.
جلب التغيير عام 2003 معه مزيداً من التعقيدات في الدولة العراقية الحديثة. ففي الفترة من 1921 إلى 2003، كانت السلطة في الدولة العراقية بيد السّنة العرب، وفجأة ومن دون تمهيد ديمقراطي أو سلاسة في انتقال السلطة، حدث تبادل انقلابي للأدوار بحصول الشيعة على السلطة، فيما السّنة أزيحوا منها الى جبهة المعارضة في تبادل للأدوار يشبه في فعله النفسي تبادلها بين السيد والعبد. ونجم عن هذا الواقع ما يشبه النظرية أيضاً هي: “أن المجتمع الذي فيه طائفتان كبيرتان تستحوذ إحداهما على السلطة بمساعدة قوى خارجية، و تتعرض الأخرى إلى الاحباط السياسي والاقتصادي والنفسي، فإن الحال بينهما يفضي إلى الاحتراب الطائفي”.

لقد أحدثت هذه الخيبات المتلاحقة في الشباب العراقي حالة من التشوش الفكري، والقلق الوجودي، وانعدام معنى الحياة لديهم بمفهومه النفسي. فالذين كانوا يعتقدون أن الديمقراطية سوف تأتي بسلاسة وبسرعة بعد تحرر البلاد من الديكتاتورية، أُصيبوا بالخيبة لحصول العكس. والذين توقعوا أن الذين انتخبوهم سيحققون احلامهم حين يتولون السلطة، تصرفوا بدلاً من ذلك بفساد بمجرد توليهم السلطة. فيما هم بين واقف في الشارع صباح كل يوم يبحث عن عمل مع أنه خريج جامعي، وبين من يعاني أمراضا نفسية: اكتئاب، ويأس، وعزلة اجتماعية، وكراهية، واغتراب. فضلاً عن شيوع ظاهرتين لا تقل خطورتهما الاجتماعية عن الإرهاب،هما: زيادة حالات الطلاق بشكل غير مسبوق، وتعاطي المخدرات بين المراهقين والشباب بشكل خاص. ولقد نجم عن فشل إدارة السلطة في العراق خلال سنوات ما بعد التغيير على الصعيد السياسي والخدمي والأمني، انحسار الاحساس بالهوية الوطنية، وضعف الشعور بالولاء للوطن، وتعددت الهويات والولاءات في حالة من التعصب العشائري والمذهبي والقومي في واقع معاش وجده الشباب يتناقض تماماً مع جوهر الديمقراطية. فضلاً عن الاحساس بعدم الرضا، وشيوع ثقافة الكراهية، وتفكك الروابط الاجتماعية وتوتر العلاقات الأسرية.
إن هذا الوصف لا ينطبق بصيغة التعميم على الشباب العراقي، فبينهم شرائح واسعة من أبناء الأكاديميين والمثقفين والفنانيين والديمقراطيين يتمتعون بالصحة النفسية، ولديهم طموحات مشروعة يسعون الى تحقيقها، غير أن غالبيتهم ليس لديهم نشاط سياسي. وبما أن مستقبل العراق سيكون بيد الشباب فإن قادته سيكونون من بين الذين انخرطوا حالياً في العمل السياسي ومن الذين ولدوا في ثمانينيات القرن العشرين، وتشبعوا بثقافة العنف والأمراض النفسية التي أحدثتها حروب ما قبل التغيير والأخرى التي أصيبوا بها بعد التغيير، لاسيما البرانويا السياسية والتعصب الطائفي والإثني.
وهذا يعني أن مستقبل العراق معرض للخطر ما لم تُتخذ إجراءات عملية تقوم على أسس علمية.
وانطلاقا من حقيقة أن القيم هي التي تحدد الأهداف وتوجه السلوك، فإن التأكيد ينبغي أن يكون على وضع استراتيجية لإشاعة ثقافة السلام ودعم الشباب من خلال المساواة وتوفير فرص العمل.