إحياء ذكرى طيارين بالجيش الباكستاني لعملهم الجرئ في إنقاذ متسلق جبال تقطعت به السبل
العقيد شاهد محمود نائب الممثل الأقدم لباكستان لدى القيادة الأمريكية المركزية
أنعم الله سبحانه وتعالى على باكستان بموارد طبيعية هائلة. فأرضها تضم سهولاً خصبة، وسلاسل جبال عالية، وودياناً، وأنهاراً، وصحارى وساحلاً بحرياً طويلاً. هناك ثلاث سلاسل جبلية رئيسية في باكستان: الكاراكورم، والهملايا وهندو كوش. وتحوي هذه الجبال قمم عالية ووعرة مما يجعلها مقصد لحملات متسلقي الجبال من جميع أنحاء العالم.
برغم جمال جبال باكستان، فإنها تمثل أخطاراً بالغة على المتسلقين. ونتيجة لذلك، قام الجيش الباكستاني بالعديد من العمليات الجسورة لإنقاذ أرواح المتسلقين الجرحى أو الذين تقطعت بهم السبل. ومن عمليات الإنقاذ التي لا تُنسى تلك التي حدثت في آب/ أغسطس 2005 عندما حاول توماز هومار، وهو متسلق جبال شهير وفخور من سلوفينيا، أن يتسلق بمفرده روبل فيس فوق جبل نانغا باربات، تاسع أعلى جبل في العالم. وهو معروف أيضاً بـ”الجبل القاتل”. في الحقيقة، هذه كانت ثاني محاولة لهومار؛ فقد اُضطر إلى التخلي عن محاولته الأولى في حزيران/ يونيو 2003 بسبب سوء الأحوال الجوية. وروبل فيس السيئ السمعة هو كابوس للمتسلقين يرتفع عمودياً 4511 متراً ويُعتبر من أعظم التحديات الشاهقة الارتفاع في العالم.
تسلق روبل فيس حتى منتصف الطريق تقريباً، لكنه توقف بسبب العاصفة الثلجية المصحوبةبضباب كثيف. وظل هومار وسط العاصفة غير قادر على الحركة لمدة ثمان وأربعين ساعة. فقد منعته الانهيارات الثلجية المدوية من الصعود أو هبوط العتبات التي استخدمها أثناء صعوده. ومما زاد من تعرضه للخطر أنه عجز عن النوم وسط تلك الظروف القاسية ولم يتمكن حتى من تجفيف ملابسه. في تمام الساعة 6 مساء يوم 5 آب/ أغسطس، طلب عن طريق اللاسلكي طائرة مروحية لإنقاذه.
ومع كل دقة من دقات الساعة، أيقن هومار أن فرصة إنقاذه تتضاءل في مثل هذه الارتفاعات ووسط أحوال جوية قاسية. حيث بدأ هومار يفقد تماسكه. كان يعد الأيام ويستهلك إمداده الهزيل من الطعام. لكن حذاء ابنه الصغير الذي أصطحبه معه في رحلته كتذكار ساعده على الأصرار للبقاء على قيد الحياة.
بحثت السلطات السلوفينية والباكستانية ترتيبات إنقاذ هومار بالمروحية – وهو الخيار الوحيد. كانت هذه حالة طوارئ اكتسبت شهرة نظراً لأن هومار كان بطلاً في سلوفينيا وشخصية مرموقة دولياً لمآثره العظيمة في تسلق الجبال وتسلقه المنفرد لأكثر الجبال وعورة في العالم. وكانت الملايين حول العالم تتطلع بشغف إلى باكستان لإنقاذ هذه الحياة الغالية.
تمثل عمليات الإنقاذ على ارتفاعات شاهقة خطراً بالغاً على أطقم الإنقاذ وتتجاوز قدرة معظم المروحيات بسبب الهواء الرقيق، والرياح القوية والانهيارات الثلجية. وكانت المنطقة التي علق بها هومار بالغة الحساسية وحادة جداً. كانت الارتفاعات غير مواتية على الإطلاق لعملية المروحية، ولم يكن هناك أي خيار للهبوط.
كان الوقت حرجاً. ومن شأن أي تأخير أن يقلل فرص النجاة ويستنفد الجهد. لذلك، أوكلت مهمة الإنقاذ إلى طيران الجيش الباكستاني، المتمرس في عمليات الجبال العالية والقادر تماماً على استكمال مهمة الانقاذ المكلف بها. وفي 7 آب/ أغسطس، أرسل الجيش الباكستاني مروحية ألويت للاستطلاع. عثر الطيارون على هومار معلقاً فوق جدار حاد من الجبل الجليدي. حاولت المروحية إنزال أغذية وملابس جافة إلى هومار، ولكن الرياح العاتية حالت دون ذلك. وبدا إنقاذ شخص بمروحية من وسط هذا النوع من التضاريس والموقع أمراً مستحيلاً. ولكن لم تبق هناك أي خيارات أخرى لإنقاذ هومار من موت محقق. وكانت الأمة السلوفينية بأسرها تصلى من أجل حدوث معجزة.
تم تكليف مروحيتين لاما تابعتين للجيش الباكستاني بمهمة الإنقاذ. ضم فريق الطيارين المقدم رشيد الله بيغ، والرائد خالد أمير رانا كقائدين للفريق، والمقدم عبيد والرائد معين كمساعدين. من الناحية المثالية، تستخدم عمليات الانقاذ من هذا القبيل الونش والحبال، ولكن وزن المروحية أعاق حمل الونش إلى الارتفاع المطلوب. وركز الطيارون البواسل على إنقاذ حياة هومار. عوّضوا عن مشكلة الوزن بتخفيف كمية الوقود التي لم تترك سوى 40 دقيقة للإنقاذ. غير أن الحالة الجوية لم تسمح بالتحليق يوم 8 آب/ أغسطس. بُذلت محاولة أخرى للوصول إلى هومار يوم 9 آب/ أغسطس، ولكن الثلوج الكثيفة، والرياح والسحب الساترة أعاقت الحركة.
وأخيراً، وفي الصباح الباكر من 10 آب/ أغسطس، أقلع الطيارون فيما كانت واحدة من أصعب العمليات في تاريخ الطيران. ارتفعوا إلى 6700 متر، أعلى من الحد الأقصى الموصي به لتشغيل المروحية. حجب الصقيع على الزجاج الأمامي للمروحية الرؤية بدرجة شديدة، ولكن سخانات التدفئة ظلت مغلقة للاقتصاد في الوقود.
جعل الهواء الرقيق من الصعب على المروحية الأولى أن تحوّم بأمان، ولكن طيارى المروحية الثانية وضعوا مهاراتهم الفنية موضع الاختبار بتمكنهم من التحليق بشفرات المروحية فقط على بعد أمتار من الصخر. حاولوا إسقاط حبل إلى المتسلق، مع العلم بأن أدنى خطأ سوف يجعل المروحية ترتطم بالجبل. بذلوا عدة محاولات، وسط ظروف معاكسة لدرجة أن الطيارين لم يتمكنوا من الرؤية بوضوح وهم يقومون بأخطر عملية تحليق في حياتهم. فقد تطلب المطبات الهوائية وارتطام الثلوج بريش المروحية أعصاباً قوية للإبقاء على المناورة الخطيرة. كانت كمية الأوكسجين منخفضة جداً، وكان الطيارون يتقاسمون أسطوانة واحدة. أسقطوا ثلاثة حبال من زحافات المروحية، ومع كيس من الصخور حتى يتدلى طرف الحبل. عندئذ أخذ الطيارون يهزون المروحية بلطف ذهاباً وإياباً حتى يصل الحبل إلى هومار.
اشتبكت بلطة هومار بأحد الحبال ولكن مشاكله لم تنته بعد. فقد دخلت العملية في وضع بالغ الصعوبة والخطورة. فقد ربط هومار نفسه بالجبل بمسماري جليد من الصلب. لم يتمكن من حل المسامير، مما يعني أن المروحية أصبحت مربوطة بالجبل. وفرق الانقاذ الجبلية تبذل جهود مضنية حتى تتجنب وضعاً كهذا. كان الطيار يحاول بالفعل التأرجح للابتعاد عن جدار الجبل، بينما قوة دفع وإلا ستفقد المروحية كانت تسحب كلاً من حبل الإنقاذ والحبل الذي يربط هومار بالمرساة. كان الطيارون المتأرجحون في الجو ينتظرون شيئاً لالتقاطه المروحية قدرتها على التحليق وتسقط متحطمة. وكانت أجهزة الطيارين تسجل المقاومة – أولاً 70 كيلوغراماً، ثم 150 كليوغراماً، ثم 200.
إن حبال التسلق مرنة. وكانت تتمدد بشكل كبير، وعندما وصلت القوة إلى 270 كيلوغراماً، تأرجحت المروحية إلى أسفل وإلى اليمين، كما لو أنها تخسر المعركة. لقد تجاوزت المروحية حدود المقاومة بشكل خطير؛ وأغلق الطيارون أعينهم وصلوا إلى الله سبحانه وتعالى. وفجأة، انكسر شيئ ما وأخذ الناجي يتأرجح في الهواء كبهلواني يقفز على الحبال. تراجعت المروحية يميناً، مما أنقذ هومار من الارتطام بدوار الشفرات. أعيد متسلق الجبال إلى معسكر قاعدة الجيش، وهو على قيد الحياة بأعجوبة. وفيما انتشر الخبر، خرج الشعب السلوفيني إلى الشوارع للاعراب عن فرحته والهتاف بحياة هومار والطيارين.
ولا تزال باكستان تحتفل بذكرى إنقاذه حتى اليوم. ومن المحزن، أن هومار، وبعد أربع سنوات في عام 2009، توفى في حادث تسلق في نيبال.
كانت مهمة إنقاذ الهملايا تبدو مهمة انتحارية ولكن قام بها طيارون محترفون بواسل من الجيش خاطروا خلالها بأرواحهم. لقد ذهبوا إلى مدى أبعد من نداء الواجب من أجل إنقاذ حياة، وخدمة الإنسانية وإعلاء الهيبة الوطنية. وهذا الحادث يعبر عن بسالة، وشجاعة واحترافية جنود الجيش الباكستاني. ولقد قامت الحكومة السلوفينية بتقدير هذا العمل الشجاع والجسور من خلال منح الطيارين أرفع أوسمة الشجاعة.