نهج سردي لمكافحة الإرهاب
سرد القصص التي تخاطب المشاعر يعتبر أداة ناجعة لفضح أكاذيب المتطرفين العنيفين
المقدم غسان الطاسان، الممثل الوطني الأقدم للمملكة العربية السعودية لدى القيادة المركزية الأمريكية
نجحت الحركات الإرهابية كالقاعدة وداعش في تجنيد عشرات الآلاف من أشياعها باستخدام سرديات تحرِّك المشاعر بحيث تثير مخاوف الضعفاء الذين هم عرضة للتأثر وتخاطب معتقداتهم وتروق لأهوائهم، ومن خلال مثل هذا السرد القصصي – الذي تضمَّن ما يربو على 800 مقطع فيديو بُثَّ عبر الإنترنت – لم يكتفِ الإرهابيون بالسعي إلى بلورة مواقف المجندين في صفوفهم، بل سعوا كذلك إلى تغيير سلوكياتهم لتتجه نحو العنف.
وقلما كان هذا المحتوى الإلكتروني دينياً، إذ كشف المرصد الدولي لدراسات الإرهاب أنَّ الدين لا يمثل سوى نسبة 2% من الدعاية الداعشية على مواقع الإنترنت، بل تهافت تنظيم داعش على عرض صورٍ للقتال والحرب والعنف للترويج للفكرة المغلوطة التي مفادها أنه كان يحارب الظلم ويحض الشباب على المشاركة في “قضية نبيلة.”
ومن خلال اللعب على مشاعر المشاهدين، نجح سرد قصص داعش في جذب الآلاف من المجندين إلى مناطق الصراع للمشاركة في قضية بعيدة كل البعد عن قضية السعي لإقامة العدل التي زعم داعش حمل لوائها، وحققت وسائل الإعلام بغير قصد مراد الإرهابيين بإعادة عرض المحتوى الإلكتروني الداعشي، وكان أبشعها فيديو قتل الطيار الأردني الملازم أول معاذ الكساسبة، إذ كشفت الدراسات أنَّ المشاهدين لم يميِّزوا في كثير من الأحيان بين الدعاية الإرهابية الأصلية وإعادة عرضها على شاشات التلفزيون.
وهكذا فلا يمكننا، نحن الذين نكافح الإرهاب، غض الطرف عن قوة السرد القصصي في جهودنا الرامية إلى دحر التنظيمات الإرهابية، ومن الأهمية بمكان خلال تكذيب الدعاية الإرهابية البشعة والهدَّامة أن نخاطب مشاعر المشاهدين والمستمعين من خلال أسلوب السرد الدرامي، لأنه أمسى طريقة إيصال الخطاب الهادف إلى مكافحة الإرهاب.
ولكن علينا القيام بذلك بطريقة تعيد صياغة أقاويل العدو، بحيث لا نسعى إلى طرح سرديات مضادة للرد على أكاذيب الإرهابيين بقدر ما نسعى إلى طرح سرديات بديلة تفضح حقيقة ما هم عليه.
وهنالك اسم آخر لهذه السرديات البديلة وهو القوة الناعمة الدرامية، فالأخبار والتحليلات والنقاشات تنجح إلى حد ما فقط في التصدِّي لفكر المتطرفين العنيفين، وبات علينا الوصول إلى مشاعر المشاهد من خلال الأعمال الدرامية التي تعرض شرور الإرهاب، سواء أكان ذلك من خلال المسرح أو التلفزيون أو السينما أو الأدب أو غيرها من الفنون.
فالأعمال الدرامية تتناول العلاقات الإنسانية بتعقيداتها ويمكنها تجريد الإرهاب من ثوب الشرعية في صميم متابعيها فتتغير مواقفهم، وتنشر الوعي حول تناقضات الفكر المتطرف، ولا يقتصر ذلك على صعيد العقل والمنطق والفكر، وإنما على صعيد المشاعر والعقل الباطن والمخيلة، فجوارح الإنسان وحواسه عندما تتعرَّض لمشاهد يقدمها مخرجون أكفاء ولها تأثير التنويم المغناطيسي تستوعب حقيقة يستغرق العقل وقتاً أطول في استيعابها.
ومثال ذلك أنَّ شبكة مركز تلفزيون الشرق الأوسط «إم بي سي» عرضت منذ أربعة أعوام مسلسلاً درامياً يتكون من 30 حلقة بعنوان غرابيب سود، يصوِّر انتهاكات داعش لسبايا الحرب وإماء الجنس في سوريا والعراق. واستوعب ملايين المشاهدين الناطقين بالعربية، وكثير منهم نساء، واقع الحياة في صفوف داعش بكل أهوالها.
وكانت الشبكة ذاتها قد عرضت قبل ذلك بعامين مسلسل سيلفي الذي يتحدث عن شباب أغواهم الفكر الداعشي، إذ نشاهد في مشهد لن يفارق الذاكرة شاباً داعشياً يضع سكينه على عنق أبيه الذي يتألَّم من هول الموقف ليذبحه، وتسبب هذا المشهد الصارخ الذي يجسد خيانة الابن لأبيه – ابن غسل الداعشيون دماغه على استعداد لذبح أبيه – في إثارة غضب المشاهدين.
وبوسع الأعمال الدرامية كذلك مواجهة المشكلات المجتمعية والعالمية التي تتخذها الجماعات الإرهابية قاعدة لها، إذ يستغل الإرهابيون المشاعر لتقديم أنفسهم على أنهم حماة الطهر والعدل الذين سيقضون على الظلم والجور المستشريين في العالم، وتعمل هذه العملية الهادفة إلى تحريك المشاعر من خلال الدعاية المخصصة لأعراف المجتمع الذي تحاول التلاعب به، وتثير هذه الأفكار المهيِّجة للمشاعر الاستياء في نفوس المعرَّضين لمثل هذا النوع من الخداع والتلاعب، ويمكن أن تسفر عن تجنيدهم في صفوف الإرهابيين.
ومن منظور مكافحة الإرهاب، تفتح الأعمال الدرامية مساراً لتوجيه هذه المشاعر الخام في بعض الأحيان في اتجاهات إيجابية، فحين تُعرض مشكلة مجتمعية في قالب درامي بما يتفق وثوابت المتلقي لها، فإنه يميل إلى تقبل العمل الدرامي على أنه تجسيد للواقع، أي أنَّ السرد القصصي الذي يتناول المشكلات تناولاً سلمياً بعيداً عن العنف، مع التزامه بقيم الجمهور ومعتقداته، سيكون أكثر قدرة على الإقناع.
ويمكننا أن نرى أنَّ السرد القصصي مع تعدد أشكاله وصوره يعتبر من الفنون المؤثرة وعظيمة الفائدة في مكافحة الإرهاب؛ فعندما نطرح روايات بديلة لرسائلهم الإرهابية، فإننا نادراً ما نرد على مزاعم الإرهابيين مباشرة، وإنما نعيد صياغة أقاويل المتطرفين لكشف الحقيقة المرة للمجتمع “الفاضل” الذي يدعون اليه، بما يبلور المواقف ولاحقاً السلوكيات نحو وجهة نافعة للمجتمع.
وما يزال للقوة العسكرية الصلبة دور بجانب القوة الناعمة في دحر قوى التطرف العنيف، بيد أنَّ الحرب ضد الإرهاب تمثل في نهاية الأمر معركة أفكار سيُكتب لنا فيها إمَّا النصر وإمَّا الهزيمة بناءً على المهارات التي نوظفها لخطابنا.
وأستشهد بما جاء في إحدى دراسات مكافحة الإرهاب حين تقول: “يعمل الأسلوب القصصي على مستوى إدراكي خفي وشديد الأهمية في تشكيل أفكار الناس ومعتقداتهم وكيفية تصرفهم، هذا المشهد معقد وفي حالة تنافس دائم، وهو المكان الذي يُشن فيه جزء كبير من أية معركة ويُخاض غمارها، بغض النظر في أحيان كثيرة عن مقدار القوة المادية المبذولة.”
التعليقات مغلقة.