الدفاع البطولي عن بيجي
صمود القوات العراقية مايقارب سنة امام هجمات داعش على مصفى النفط الاستراتيجي
العقيد الركن على سهم الكناني، جهاز مكافحة الإرهاب | صور جيتي إمجيز
معارك مصفى بيجي لايمكن اختزالها بمقالة، وقصص البطولة هناك قادرة على انتاج أفلام سينمائية على مستوى أفلام الحروب العالمية، شراسة المعارك وسحب دخان حرائق خزانات الوقود التي تحجب اشعة الشمس وأهتزاز المكان من شدة انفجار المفخخات وقصص استشهاد رفاقنا التي نحفظها عن ظهر قلب. فتلك الـ 11 شهراً التي عشناها داخل مصفى بيجي، جسدت معنى حب الوطن والصمود بوجه اكثر العصابات الأرهابية وحشية. هذه ليس قصتي بل حكايات الـ 325 بطل الذين صدوا 40 هجوما واسعا و175 تعرضاً بكافة الأسلحة وبأعداد مضاعفة لعددنا وبمئات السيارات المفخخة، واستطعنا الحفاظ على تماسك القوة ودحر الهجمات.
موقع مدينة بيجي الأستراتيجي جعلها هدف لعصابات داعش، حيث تمر من خلالها الطرق الرئيسية التي تربط بغداد والموصل وصلاح الدين وكركوك وديالى، والسيطرة على هذا الموقع يعني قطع طرق الأمداد والتموين القادمة من بغداد. ومصفى بيجي هو واحد من اكبر مصافي النفط في الشرق الأوسط ويتحكم بعائدات واقتصاد الدولة. داعش أراد بكل السبل السيطرة على المصفى لوجود خزانات وقود ضخمة وكذلك خزانات النفط الخام والنفط الأسود. بعد أن تمكن داعش من فرض سيطرته على مدينة بيجي ركز هجماته للسيطرة على المصفى، ولو تمكن من السيطرة عليها لأصبح لديه قاعدة عسكرية ذات تمويل ذاتي. ولأصبح من الصعب الوصول للمناطق الشمالية ولكانت معركة تحرير بيجي مدمرة. لذلك استماتوا لإقتحام المصفى لأنه كان سيزيد الدخل المادي ويوفر الوقود وله تأثير معنوي كبير لهم.
ولربما كانوا يخططون لتفكيك المصفاة وبيعها لأحدى الجهات المشبوهة خارج العراق ليحصلوا على أموال طائلة لدعم عملياتهم الإرهابية.
كما أن داعش يعرف جيدا ان للمصفاة رمز معنوي لأن معظم وكالات الأنباء تتحدث عنها في تلك الفترة. وقد أدعوا اكثر من مرة بانهم سيطروا عليها وكل مرة تنفي الحكومة رسميا الخبر. ولو استطاعوا احتلال المصفاة كان ذلك سيرفع معنويات مقاتليهم ويؤثر على معنويات جنودنا.

بدأت المعارك يوم العاشر من يونيو/حزيران عام 2014 لغاية الحادي والعشرين من مايو/ايار 2015، طوال هذه الفترة كانت المصفاة محاصرة من كل الجهات. في البداية كنا 35 مقاتل من جهاز مكافحة الإرهاب و40 مقاتل من الفرقة التاسعة، وبضعة مقاتلين من لواء المشاة 14 ومجموعة من رجال العشائر أي ان مجمل العدد كان 110 مقاتلين تقريبا. واستطعنا صد الهجمات الأولى على المصفى في 2014، وصمدنا برغم سيطرة داعش على معظم المدن المحيطة بنا. في أواخر 2014 استطاعت قواتنا فتح ثغرة لأرسال التعزيزات بالقوة والعتاد لكن تم قطعه بعد أسابيع. وعندما اشتدت المعارك وزادت ضراوتها، توقفت الأمدادات.
أود ان اذكر للتأريخ الموقف الشجاع للفريق أول الركن طالب شغاتي الكناني رئيس جهاز مكافحة الإرهاب، وقائد قيادة العمليات المشتركة آنذاك ودوره الكبير والفعال في صمود المصفاة. أتصل به العميد علي القريشي بطلب من اللواء الركن ضيف، في منتصف تموز، 2014 مباشرة وشرح له التحديات التي تواجهنا كقوة تابعة لجهاز مكافحة الإرهاب وكجزء من قاطع مسؤولية العمليات المشتركة في مصفاة بيجي ومخاطر قطع الأمدادات عن المصفى، وكان رد السيد الفريق طالب شغاتي الكناني مطمئناً ووعدنا بأنه سيستخدم كل صلاحياته من اجل إيصال التعزيزات. وبعد اجتماعات مكثفة بين قيادة طيران الجيش وقيادة القوة الجوية جاءنا اتصال بعد يومين من الرائد عمار عباس شرهان وأخبرنا بأن القيادة قررت ارسال أسلحة حديثة ومعدات وأرزاق عن طريق طيران الجيش وبحماية فريق متخصص من قيادة جهاز مكافحة الإرهاب. لقد واجهت المروحيات مقاومة عنيفة من دفاعات داعش والحمد لله استطاعوا تدمير تلك الدفاعات وشق طريقهم المحفوف بالمخاطر.
كانت سعادتنا لا توصف ونحن نراقب الغبار المنبعث من هبوط المروحيات يوم الثاني والعشرون من أوغسطس/آب عام 2014 في منطقة الهضبة، داخل المصفاة وبحماية مروحيات مقاتلة من نوع أم آي 28. هذه العملية الجريئة رفعت معنويات الجنود كثيرا. وبقدر ماكنا سعداء بلقاء رفاقنا في قيادة جهاز مكافحة الإرهاب، كنا نتفحص ما وصلنا من سلاح وعتاد كأطفال يفتحون هداياهم يوم العيد! قاذفات الرمانMK19 والقناصات بعيدة المدى عيار8.6 ملم مجهزة بأجهزة كواتم الصوت والرؤيا الليلية والنهارية وتوفير كافة انواع الاعتدة الخاصة بها بكميات كبيرة. قام فريق العمليات الخاصة القادم من بغداد بتدريب افراد القوة على استخدام هذه الأسلحة الحديثة واستطلعوا المكان لنقل الصورة للسيد قائد العمليات المشتركة الذي نقل تحياته لكل فرد في القوة وأكد اهتمامه الشخصي في صمود المصفاة. فكان هذا الموقف بمثابة تحقيق النصر النهائي لنا.
أقتصرت التعزيزات على مروحيات طيران الجيش، حيث تأتينا في مواعيد غير محددة، بسبب رداءة الجو والعواصف الترابية والنيران المعادية، لكنهم استطاعوا من نقل الأعتدة والمقاتلين أذ أصبح عددنا الكلي 325 مقاتل من كل الصنوف. كان الهدف ان نجلب تعزيزات اكبر. وسرعان ما تحطمت آمالنا عندما استهدف الأرهابيون المروحيات واستطاعوا اسقاط مروحيتين مما توقف طيران الجيش من إيصال التعزيزات.
مر أسبوعين على توقف قدوم المروحيات من بغداد، والتي كانت تبعث الأرتياح في نفوسنا، وبدأنا نشعر بالإختناق بسبب شحة الأرزاق والعتاد ومواد الطبابة وأرتفاع أصوات انين الجرحى. في فجر ذلك اليوم المشؤوم بدأت مكبرات الصوت من مساجد بيجي القريبة من المصفاة تبث رسائل التهديد والوعيد لكسر ارادتنا:
“أيها الصفويون، اقتربت نهايتكم ولايوجد من ينقذكم. من الذي سيجلب لكم الماء والطعام، ستنفد ذخيرتكم قريبا ونذبحكم ذبح النعاج ونصور جثثكم وننشرها على النت، لايوجد امامكم غير تسليم أنفسكم لمجاهدي الدولة الأسلامية قبل فوات الأوان.”
تعودنا على بذاءة خطابهم، وتحطم المروحيات والحرب النفسية المعادية لم يفقدنا الأمل في القتال ولم يضعف اصرارنا على الصمود.
لصغر عدد القوة وكبر قاطع المسؤولية كان الجميع يتناوب على الحراسة حتى قائد القوة يأخذ دوره في المناوبة في احد الأبراج. في البداية كنت انا معاون آمر قوة مكافحة الإرهاب في المصفاة وكان آمر القوة العميد علي القريشي، وقد أصبحت انا آمر القوة بعد إصابة العميد علي وأخلاءه من أرض المعركة قبل توقف المروحيات. لم يكن لدينا مستشفى ميداني، كنا نعالج الجرحى بالضمادات البسيطة الموجودة مع كل مقاتل كأسعافات أولية، وحين يرى المقاتل نفسه قادرا على حمل السلاح تجده يترك نقطة جمع الجرحى ويتوجه الى نقاط المناوبة، او في اوج المعركة يقاتل بالضماد الميداني. لأنه يعرف بأن ليس لدينا بديل عنه، وكان الجنود الجرحى يذهبون طوعا للقتال برغم أوامر ضباطهم لهم بالراحة. أما الحالات المستعصية فنرسلها مع طيران الجيش، أذا كان هناك طائرة قادمة وفي كثير من الأحيان يتعذر علينا انقاذ الإصابات الخطيرة بسب سوء الأنواء الجوية التي تحد من حركة المروحيات من طراز أم
آي 17.
نفذت كل المحاولات من فك الحصار عنا من قواتنا المسلحة، وبدأنا نشعر بأننا نقترب من نهايتنا بسبب نفاد الذخيرة والماء، وبعد نفاد كل الحلول لإيصال الأمدادات لنا، استعانت القيادة بشركائنا بقوات التحالف لإيصال العتاد والأرزاق بإستخدام مظلات خاصة كبيرة الحجم تلقيها طائرات سي 130 من ارتفاعات عالية. فشكرا لأصدقائنا في قوات التحالف على ادامة المعركة من خلال الدعم اللوجستي الذي كنا بأمس الحاجة له حيث كانت فرحتنا كبيرة في هذا الإنجاز الكبير. فقوات التحالف تملك التقنيات الحديثة في هذا المجال وقد بدأوا بتجهيز القوة الجوية العراقية بالمظلات لإلقاء الإمدادات العسكرية لنا والمواد الطبية.
مرت علينا أيام صعبة وحرجة، خاصة حين تنقطع كل وسائل الإتصال وتنقطع الإمدادات العسكرية والتي لها تأثير سلبي على معنويات الجنود. أضافة الى الحرب النفسية التي كان يمارسها الدواعش كل يوم. عند الغروب، تبدأ أصوات النشاز في حرب احباط المعنويات وكسر الإرادة، مرة من خلال مآذن المساجد وأحيانا كثيرة من الساتر الترابي الذي يفصل بيننا:

التعليقات مغلقة.