الحنكة في القيادة
الفريق الركن قيس خلف رحيمة في مواجهة التهديدات التقليدية وغير التقليدية
أسرة يونيباث | ملكية الصور عائدة لوزارة الدفاع العراقية
تدل سحنته السمراء وملامحه المميَّزة على جذوره السومرية؛ جواد وشجاع ومهذب، يشذب كلماته حين يحادث ضيفه ليصوغ منها قصائداً تجسد روح الضيافة الجنوبية. لا يمنعه تواضعه ودماثة خلقه من إخبارنا بنظرته الثاقبة في العلوم العسكرية: النظرة التي اكتسبها من معارك كثيرة خاضها خلال مسيرته كجندي مضحٍ عنيدٍ لا مجال في ذهنه إلَّا للنصر.
إنه الفريق الركن قيس خلف رحيمة، قائد القوات المشتركة و معاون رئيس أركان الجيش للعمليات؛ اسم وتاريخ يعنيان الكثير لدى القيادات الأمنية والسياسية، أثبت بمهنيته ونزاهته أنه أهل للنهوض بمهام جسام للذود عن حياض الوطن.
وُلد في محافظة ميسان في عام 1962، وتربى على أدب الحديث ومجالسة الرجال منذ نعومة أظافره، وتخرج من الكلية العسكرية الأولى في تموز/يوليو 1984، وحاز على شهادة الماجستير بعد حرب الخليج الأولى والدكتوراه بعد تحرير الموصل، فكانت دراسته معزَّزة بخبرات المعارك الميدانية.
قال السيد الفريق: “عند دخولي الكلية العسكرية في عام 1984، كانت المعارك في الحرب العراقية-الإيرانية على أشدها. فكانت الكلية عبارة عن جبهة قتال يتلقى فيها الطلاب خبرات أساتذتهم العائدين من جبهات القتال ليشاركوهم الخبرات الميدانية والدروس المستقاة من المعارك. تعلمنا الكثير من القادة الميدانيين الذين كانوا يأتون لإلقاء المحاضرات، فعندما تخرجنا كانت لدينا خبرات ميدانية وأكاديمية كما لو أننا اشتركنا فعلاً في الحرب.”
رغم عمله في قطاعات العمليات، كان الفريق قيس يطمح للخوض في غمار الدراسة الاستراتيجية، فانخرط في كلية جامعة الدفاع الوطني في عام 2010.
فيقول: “كنت سعيداً جداً بترشيحي عن وزارة الدفاع لدراسة (استراتيجية الأمن الوطني) والحصول على شهادة الماجستير. وكانت الدراسة مميزة وعلى يد أساتذة متخصصين في العلوم السياسية والعسكرية، وكانت تجربة نادرة لما اكتسبته من خبرات ميدانية في قطاع تلعفر، وبدأت أحلل مسار الخطط التي وضعتها لبسط الأمن في تلك المدينة مع المناهج الدراسية؛ مما دفعني لدراسة الدكتوراه بموضوع «الحروب الجديدة والتحول في مفاهيم القوى» في عام 2019. وبرغم مشاغلي في العمل كقائد عمليات الفرات الأوسط والظروف الأمنية التي يمر بها الوطن، وبرغم تأجيل مناقشة الأطروحة لعدة مرات، كنت مصراً على إكمال دراستي؛ خاصة وأنَّ التخصص ذو علاقة بكل التحديات التي يمر بها العراق، وخاصة الجيل الخامس والسادس من الحروب.”
لم يتوقف الفريق قيس عند محطة الحروب التقليدية، بل سبق أبناء جيله في اقتحام عالم العلوم العسكرية المعاصرة من خلال بحوثه الاستراتيجية، ومعرفته بأهمية الحرب السيبرانية، وخطورة هيمنة الجماعات الإرهابية والمتطرفة على قنوات الإعلام الاجتماعي.
فيقول: “بعد هول الصدمة وسيطرة داعش على مساحة كبيرة من الأرض، اعتمدت عصابات داعش على توظيف الحرب النفسية من خلال بث الإشاعات في قنوات الإعلام الاجتماعي لزيادة إرباك الوضع الأمني.”
وتابع قائلاً: “في تلك المرحلة كانت المجابهة الإعلامية على مستوى الدولة والمؤسسات الإعلامية الرسمية وغير الرسمية دون المستوى المطلوب. وكانت الجماعات الإرهابية تعمل على مسرح عمليات واسع يعتمد على بث الرعب في قلوب السكان من خلال إنتاج مشاهد جز الرؤوس وتفجير الأسواق وسبي النساء وتحميلها على صفحات الإعلام الاجتماعي لتكون رسائل للآخرين.”
واستطرد قائلاً: “الغرض منها تحطيم العامل النفسي لدى مناهضيهم، وإجبار المواطنين على المساومة والرضوخ، واستسلام الأجهزة الأمنية. بدأنا العمل بتفكيك شبكاتهم السيبرانية التي كانت تعمل من خارج العراق ومن المناطق التي تحت سيطرتهم.”
عمل الفريق ورفاقه مع قوات التحالف الدولي على متابعة الشبكات التي يستخدمها داعش في الحرب السيبرانية وغلقها. كما تعاونت فرق الحرب الإلكترونية العراقية مع فرق قوات التحالف على ملاحقة مغردي ومدوني داعش وغلق حساباتهم.
فيقول الفريق: “ثمَّ ركزنا على إعادة بناء الثقة ورفع المعنويات لدى الجيش، فنجحنا في إعادة الاستعداد النفسي للقتال لدى أفراد وحداتنا، وبالتالي صمد أبطالنا في ساحات القتال ولم ينسحبوا من قطاعات مسؤولياتهم حتى في أشد المعارك ضراوة؛ إذ بدأ يتضح لهم أنَّ الصورة الكاذبة التي رسمتها دعاية داعش على الإنترنت عن الإرهابيين – وكأنهم مقاتلين من كوكب آخر لا يُهزمون ولا يقتلهم الرصاص – إنما هي أكذوبة كبيرة.”
وأشاد الفريق قيس بدور قنوات الإعلام الاجتماعي والشباب في دحر داعش، إذ فضحوا أكاذيبه، وأصبح من الصعب عليه نشر أي أكذوبة. وهكذا هُزمت الماكينة الإعلامية والجيش الإلكتروني لداعش على أيدي الناشطين المدنيين ورجال الاستخبارات وقوات التحالف، مما مهد لهزيمة داعش على الأرض.
انطلاقاً من إدراكه أنَّ حروب الجيل الرابع والخامس والسادس تعتمد على التقنيات الحديثة، ينصح الفريق قيس الجيوش على مواكبة التطور التكنولوجي حتى تتمكن من مواجهة التهديدات الحالية والمستقبلية التي تندرج عادةً تحت عنوان الحرب غير المتناظرة.
فيرى أنه يجب على الجيوش تحصين دفاعاتها الإلكترونية وبناء أجهزة استخباراتية سيبرانية قادرة على رصد الأنشطة المعادية لمنع أي خرق للأمن القومي وعدم السماح للجماعات الخبيثة بشن هجوم سيبراني. كما أنَّ توفر التقنيات الحديثة والإنترنت والطائرات المسيَّرة يجعل عمل الأجهزة الأمنية أشد تعقيداً.
كان الفريق قيس آمر اللواء العاشر في قضاء تلعفر بين عامي 2004 و2008، وقد كان هذا القضاء مرتعاً للقاعدة وكان العراق يتجه الى منزلق خطير: الاقتتال الطائفي وسيطرة العصابات الإرهابية على المدن.
فيقول: “كُلفت بمهام ومسؤوليات معقدة لأسباب عدة، أهمها سيطرة القاعدة على المدينة والمناطق المحيطة، إضافة الى التركيبة السكانية المتكونة من أطياف ومذاهب متعددة. استلمت منصب آمر اللواء العاشر في فترة كان الخوف والوجوم ظاهرين على وجوه العراقيين، وشبح الموت يحوم على رؤوسهم، ولم يكن جهاز الشرطة قد تشكل بعد، مما أضاف عبئاً أكبر على الجيش لتوفير الأمن. وكانت فجوة الثقة كبيرة جداً بين المواطن والقوات الأمنية التي كانت عاجزة عن حماية المدينة من الأعمال الإرهابية.”
واستدرك قائلاً: “لكن بدأت الأوضاع تستتب تدريجياً من خلال العمل بروح الفريق الواحد مع قوات التحالف؛ وكان التركيز على العمل الأمني والاستخباري والاعتماد على مصادر مدنية ووطنية لبسط الاستقرار في المدينة. كما كنا نشجع أبناء أهل السنة في تلعفر على الانخراط في صفوف الجيش والشرطة، وكان هذا أحد الأهداف المهمة الذي استطعنا تحقيقها فيما بعد. وعمل الفريق على تقليص الفجوة بين المكونات العرقية والدينية في المدينة وزرع الثقة ونبذ الطائفية وبناء جسور التواصل مع السكان.”
عاشت بغداد أياماً دامية في مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2019 حين طالب المتظاهرون بتحسين الوضع الاقتصادي ومحاربة الفساد الحكومي وجوبهوا بالقوة المفرطة من بعض الجهات غير المنضبطة كادت تقود العراق لمنزلق خطير. فلم يكن أمام القيادة السياسية والعسكرية خيار سوى استبدال القيادات الأمنية في تلك المناطق ووضع قائد يتحلَّى بشيم ضبط النفس والوطنية والشجاعة؛ وهنا برز اسم الفريق قيس لتكليفه بهذه المهمة الصعبة.
فيقول: “أحدث سقوط الضحايا بين المواطنين فجوة ثقة عميقة بين الشعب والقوات الأمنية، وتفاقم الوضع بسبب الصورة الأمنية المرتبكة. وكانت توجد معضلة كبيرة تتمثل في عدم وجود قوات متخصصة ومدرَّبة ومجهزة للقيام بهذه المهمة؛ فمثل هذه المهمات والواجبات الخاصة تتطلب الحكمة والروح الوطنية ورباطة الجأش والتروي، قبل الخبرة العسكرية وفن القيادة، إضافة إلى كسب ثقة المتظاهرين السلميين من خلال حمايتهم ومنع قوى الأمن من استفزازهم.”
كما كان يجب التعامل ضمن صلاحيات الدستور والقوانين لمكافحة أعمال الشغب والتعامل مع المتظاهرين غير السلميين ممَّن يعتدون على البنية التحتية والقطاعات الأمنية بطريقة تختلف عن تلك التي يُعامل بها المحتجون السلميون الذي يمارسون التظاهر وفق ما نص عليه الدستور.
فيقول السيد الفريق: “حال استلامي للمنصب، عملت على تحديد قطاعات المسؤولية، وحددت صلاحيات كل ضابط، مع وضع حواجز واضحة تراعي معاهدات حقوق الإنسان الدولية للفصل بين المتظاهرين والقوات الأمنية.”
واسترسل بالحديث قائلاً: “نُصبت كاميرات على الحواجز والنقاط الأمنية لمراقبة أي مخالفات انضباطية. وأَصدرت أوامر حازمة وأَخذت تعهدات خطية من جميع الضباط بعدم استخدام الرصاص الحي ضد المتظاهرين مهما كانت الأسباب، ومنعت استخدام الرصاص المطاطي وبعض القنابل المسيلة للدموع.”
كما حرص الفريق قيس على التواصل اليومي مع الناشطين والمتظاهرين السلميين، مما ساعد على تهدئة الوضع خلال فترة قصيرة.
ونختم بقوله: “استطعنا فرض هيبة الدولة واحترام الجيش والقوات الأمنية التي وُجدت من أجل الشعب ومنه تستمد القوة والعزيمة.”
التعليقات مغلقة.