اصطياد قائد إرهابي
بصبر وتأن، أمضى جهاز مكافحة الإرهاب العراقي سنوات في تعقب أحد قادة داعش
القصة والصور من جهاز مكافحة الإرهاب العراقي
تعتمد فاعلية الحرب ضد المجاميع الإرهابية اعتمادًا كبيرًا على العمل الاستخباري الدقيق وتعقب أثر قيادات الصف الأول للتنظيم. وهذا العمل الذي يكتنفه التعقيد يحتاج لوقت طويل وجهد مضن لتحديد هوية قيادات الصف الأول وتحديد مواقعهم وطبيعة عملهم، ومعرفة كيفية تواصلهم مع من يعمل بأمرتهم لتنفيذ العمليات. ويحتاج رجل الاستخبارات بالدرجة الأساسية كسب قلوب السكان لأنهم من يمتلك مفاتيح المعلومات التي تقود لمخابئ الإرهابيين. لذلك ساعدت المعلومات التي وفرها المواطنون رجال كتيبة الاستطلاع الأولى في جهاز مكافحة الإرهاب على تتبع وملاحقة الإرهابي أحمد محسن نجم حسين الكرطاني المعروف بأسمه الحركي (أبو نبأ)، الذي تم اعتقاله في تشرين الأول/أكتوبر 2020 بعد تكليفه من قبل داعش بتنشيط العمل الإرهابي في بغداد.
شغل الإرهابي أبو نبأ منصب منسق ولاية العراق في تنظيم داعش الإرهابي، وحسب التقارير الإستخبارية، فأنه انخرط في صفوف الفصائل “الجهادية” منذ عام 2003 وشهد مبايعة تلك المجاميع تنظيم القاعدة بقيادة أبو مصعب الزرقاوي عام 2006 .وبعد تشكيل ما يسمى بـ “دولة العراق الإسلامية” أصبح أبو نبأ من قيادات التنظيم في بغداد وشغل منصب “شرعي قاطع الكرخ الجنوبي ولاية بغداد”، ومن ثم انتقل إلى منصب إداري في نفس القاطع. وكانت تربطه علاقة وثيقة بالإرهابي مناف الراوي، والي بغداد آنذاك والذي تم اعتقاله عام 2010.
ولد أبو نبأ في بغداد عام 1970، لعائلة كبيرة العدد، وأكمل دراسته فيها. تخرج من كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة بغداد. كان متعمقا بقراءة الكتب الدينية في تسعينيات القرن المنصرم حيث تبنى النظام العراقي السابق ما يعرف بالحملة الإيمانية لامتصاص غضب الشارع الناقم بسبب تردي الوضع المعيشي بعد حرب تحرير الكويت.
نتيجة لذلك، تعلم الكثير في فقه الشريعة إذ كان قارئ نهم يقرأ كل ما يقع بين يديه من الكتب العلمانية والإسلامية المتطرفة وليس لديه معرفة عميقة بالفقه الاسلامي فحسب؛ بل بحث كذلك في جميع أصول الدين. قبل انضمامه للتنظيمات المتطرفة، كان يمارس رياضة كرة القدم وكان لاعبا معروفا في الأندية حيث لعب لناديي الطلبة والقوة الجوية.
تم اعتقاله من قبل قوات التحالف الدولي أثناء العنف الطائفي في بغداد عام 2007 وأودع سجن بوكا جنوب البصرة الذي كانت تديره قوات التحالف. مكث في السجن عامين وتم إطلاق سراحه عام 2009 مع بقية المعتقلين إبان استقرار الوضع الأمني في العراق وإطلاق الحكومة العراقية برنامج المصالحة الوطنية، إذ تعهد المعتقلون خطياً بإعادة الاندماج بالمجتمع وعدم العودة للأنشطة الإرهابية. لكن أبو نبأ لم يف بالعهد بل عاد للعمل الإرهابي بعد اطلاق سراحه بأسابيع. هذه المرة، شغل منصب مهم في صنع وتطوير الأسلحة والمتفجرات في ولاية بغداد. وكان يعمل كمساعد أول للإرهابي المقبور معتز نومان عبد نايف الجبوري المكنى “حجي تيسير” والذي كان يشغل منصب أمير التطوير والتجهيز للخلافة، إذ كلف أبو نبأ بمهمة تجنيد المهندسين والفنيين وتقديم مغريات مادية ومعنوية واستخدام التهديد والترهيب في حالة رفضهم للعرض.
كانت خطة حجي تيسير وأبو نبأ ترتكز على محاولة صنع مفخخات ضخمة تفوق قدرتها التفجيرية القصف الصاروخي، وذلك لمضاعفة الخسائر البشرية والمادية لزعزعة الاستقرار الأمني النسبي في بغداد. وكانت نتائج الخطة الإرهابية كبيرة جدا، حيث تم تفجير شاحنات ثقيلة محملة بأكثر من طن من المواد شديدة الانفجار استهدفت أماكن حساسة في العاصمة، أولها كان انفجار “الأربعاء الدامي” الذي استهدف وزارة الخارجية في منطقة الصالحية عام 2010 تبعه انفجارات أسبوعية مماثلة لمباني الحكومة المحلية لمحافظة بغداد ووزارة العدل ووزارة المالية. انفجارات حصدت أرواح الأبرياء من مراجعي الوزارات وموظفيها على حد سواء.
بعد توجيه ضربة قاصمة لتنظيم دولة العراق الإسلامية عام 2010 من خلال اعتقال الإرهابي مناف الراوي ومقتل الإرهابي أبو عمر البغدادي الذي كان يشغل منصب أمير ما يسمى بدولة العراق الإسلامية وقائده العسكري الإرهابي أبو أيوب المصري في عملية أمنية في منطقة الثرثار، تفكك تنظيم دولة العراق الإسلامية وتم اعتقال معظم قياداته، وهرب الآخرون الى خارج العراق وإختبأ بعضهم في الصحاري، ومن بين هؤلاء كان الإرهابي أبو نبأ. شهد العراق بعد تلك الضربة استقرارا أمنيا ملحوظا بين عامي 2011-2012.
لكن ما إن أختفى التنظيم الإرهابي حتى ظهر مرة أخرى نهاية عام 2012 بتدشين عملية إرهابية في قضاء حديثة. لم تكن عملية مؤثرة لكنها اُستغلت إعلاميا لشن حملة تجنيد ولتكون دعاية إعلامية تطمئن أنصارهم بأنهم ما زالوا يعملون في الساحة.
وفي عام 2013 في قمة أعمال العنف في سورية وفي ظل تدفق الأموال والتبرعات والتعبئة التي قامت بها عناصر مشبوهة ورجال دين متطرفون، أصبحت الساحة السورية مرتعاً للتنظيمات المتطرفة ووجد الهاربون في الصحاري مكانا آمنا لهم داخل المناطق التي كانت تسيطر عليها الجماعات المتطرفة. فأعلن الإرهابي إبراهيم عواد أو ما يكنى ب “أبو بكر البغدادي” -أمير دولة العراق الإسلامية- ضم سورية لدولته المزعومة وأصبح اسمها الجديد “الدولة الاسلامية في العراق والشام” (داعش) وصارت حفلات الدم في عمليات جز الرؤوس وتفجير المفخخات والاغتيالات بالأسلحة ذات الكواتم مشاهد مألوفة في مدن عدة وأصبح المطلوبون أمنيا – بما فيهم أبو نبأ – قادة لداعش.
بعد اجتماع قادة داعش في قضاء الفلوجة عام 2013 لغرض اتمام عملية احتلال المناطق ورسم السياسة المستقبلية للتنظيم، عُيِّنَ أبو نبأ بمنصب قاضي ولاية بغداد وكان من المقربين من الإرهابي أبو جعفر والي بغداد.
وبعد احتلال المحافظات على يد التنظيم الإرهابي، تم تكليفه بإدارة الشؤون الادارية للدولة الاسلامية من محافظة اربيل -عاصمة كردستان العراق- وخلال تسلله اليها وإقامته السرية في اربيل، كان يستقبل رسائل ورقية محررة من الإرهابي حجي تيسير والي العراق تتضمن اسئلة واستفتاءات شرعية و امور استشارية فيما يخص السياسة للتنظيم.
كان أبو نبأ مسؤولا عن نقل عوائل القيادات الإرهابية من سوريا وتركيا الى محافظة نينوى خلال فترة سيطرة التنظيم عليها ومن ضمنها عائلة الإرهابي الدكتور اسماعيل العيثاوي (أبو زيد العراقي) الذي كان يشغل منصب عضو في اللجنة المفوضة في التنظيم.
عام 2016 تم استدعاءه من قبل اللجنة المفوضة، على وجه الخصوص من قبل الإرهابي أبو زيد العراقي الملقى القبض عليه من قبل جهاز المخابرات الوطني، حيث كلف بمهمة فتح استثمارات في المناطق التي تقع تحت سيطرة التنظيم لتمويل التنظيم ذاتيا بعد ان ضاق عليهم الخناق. توجه أبو نبأ من أربيل الى تركيا وكان بانتظاره الإرهابي طالب الزوبعي والذي كان يعمل ضمن شبكة المهربين الذين ينقلون الأشخاص والبريد لداعش، وتم نقله من تركيا الى محافظة الرقة السورية، وقام بفتح واجهات تجارية مثل العقارات والشركات والاسثمارات الاخرى التي توجه عائداتها لداعش ويديرها اشخاص محليون للتمويه.
في بداية عام 2020، تم استدعاء أبو نبأ من الرقة الى تركيا من قبل شخصين (أبو بكر) و (أبو محمد) المرتبطين باللجنة المفوضة والتي ترتبط مباشرة بما يسمى الخليفة، وتم تكليفه بإدارة وتنسيق أعمال ولاية العراق وإعادة العمل في قاطع بغداد وتشكيل مفارز أمنية وعسكرية وإعلامية ضمن قاطع بغداد،في محاولة لإعادة نشاط داعش في العاصمة بعد أن تكبد ضربات قاصمة من قبل القوات الأمنية العراقية. لم يكن يخطر ببال أبو نبأ ان استخبارات جهاز مكافحة الإرهاب تراقب تحركاته وإنه سيقع في قبضة العدالة.
بعد دخوله للعراق، تم تشكيل فريق استهداف من قبل مديرية إستخبارات جهاز مكافحة الإرهاب لغرض متابعة تحركاته واتصالاته داخل العراق واستحصال الموافقات القضائية لغرض القاء القبض عليه.
بعد مراقبة ومتابعة دامت عدة شهور من قبل استخبارات وحدة الاستطلاع، تم الشروع في شهر أكتوبر، 2020 بالقاء القبض على الخلية الإرهابية التي يديرها أبو نبأ، حيث كان من المفترض أن يتواجد في بغداد لغرض لقاء والي بغداد والقائد العسكري العام لما يسمى “ولاية بغداد.”
تم استنفار فرق المتابعة والمراقبة لوحدة الاستطلاع الأولى، وليومين متتاليين واضبت الفرق على متابعة أبو نبأ من خروجه من محافظة أربيل وحتى دخوله بغداد. كان أثنائها يتنقل داخل مناطق بغداد، وفي اليوم الثالث وبعد أن اكمل مهمته وحاول مغادرة بغداد إلى محافظة أربيل، تم استدراجه من قبل أحد عناصر الاستطلاع الذي كان ينتحل صفة سائق سيارة إجرة عند دخوله إلى شارع مطار بغداد الدولي كانت سيطرة استخبارات جهاز مكافحة الإرهاب بانتظارهم فوقع في الفخ. وهكذا سقط احد أخطر الإرهابيين في قبضة العدالة بعد سنوات طويلة من المطاردة لارتكابه جرائم إرهابية بحق الأبرياء.
التعليقات مغلقة.