رسالة قائد مهم
أودّ أن أعرب عن خالص تقديري وامتناني للقيادة الوسطى الأميركية، لدعوتي لكتابة المقال الافتتاحي لهذا العدد، بعنوان: “منع عودة ظهور التطرف العنيف”.
يشكّل موقع لبنان الجيوسياسي، وهو موقع مهم على الحدود الشرقية للبحر المتوسط، يشكّل جسر عبور بين طرفَي العالم، ويُعتبر مصدر ثروةٍ للبنان، إلّا أنّ هذا الموقع الجغرافي كان ولا يزال مصدر تحدياتٍ مختلفة له، بما فيها الإرهاب.
تتمثّل المهمة الأساسية للجيش اللبناني في “الدفاع عن الوطن، والمحافظة على السيادة وسلطة الدولة وحماية الدستور وحفظ الأمن والاستقرار والمساهمة في تأمين الاستقرار الاجتماعي والتنمية”.
من المتعارف عليه أنّ الإرهاب يعني أعمال العنف التي تستهدف مدنيين لتحقيق أهداف سياسية أو أيديولوجية، إلّا أنّ المجتمع اللبناني يرتكز على ثقافة التنوع والحرية والانفتاح، التي تتعارض بشكلٍ واضح مع مبادئ الإرهاب. وعلى الرغم من أنّ هجمات 11 أيلول 2001 لم تكن هي الانطلاقة الأولى للعنف، إلّا أنّ ذلك اليوم المشؤوم غيّر وجه العالم بشكلٍ لم يعد باستطاعة أحد الوقوف على حياد. بات هذا الصراع عالميًا، لأن آثار الإرهاب قد ظهرت في كل مكان.
قام الجيش اللبناني بمكافحة التهديدات الإرهابية قبل كل جيوش العالم، وحتى قبل أن يتحوّل الإرهاب إلى خطر عالمي. فخاض في مطلع الألفية الثانية، معركةً عنيفة ضد جماعة إرهابية كانت تتحصّن في جرود منطقة الضنية شمال لبنان. كان هذا العدو يمتلك الأسلحة المتوسطة والثقيلة، وقد خطط لإقامة إمارة متطرفة في المنطقة، لكنّ الجيش نفّذ مهمّته بنجاح وألقى القبض على عدد كبير من هؤلاء الإرهابيين.
وفي العام 2007، كان الجيش على موعد جديد مع معركة طويلة، هذه المرة ضد تنظيم فتح الإسلام في مخيم نهر البارد شمال لبنان. كانت هذه الجماعة الإرهابية تخطط للسيطرة على منطقة الشمال واتّخاذها قاعدةً لنشر الإرهاب في مناطق لبنانية أخرى. انتصر الجيش مرة جديدة متمكّنًا من القضاء على عدد كبير من الإرهابيين.
بعدها، في العام 2013، اعتدت مجموعة إرهابية بقيادة أحمد الأسير، على مواقع عسكرية في منطقة صيدا جنوب لبنان، فردّ الجيش على هذه الاعتداءات ونجح في القضاء على هذا التهديد.
وفي وقتٍ لاحق، استغلّت جماعات إرهابية خطيرة كانت مشارِكة في الأحداث السورية، وأبرزها داعش وجبهة النصرة، الحدود الشمالية والشمالية الشرقية بين لبنان وسوريا لزرع الأفخاخ وشنّ الهجمات وإطلاق الصواريخ إلى داخل الأراضي اللبنانية.
شملت هذه الهجمات التوغّل إلى داخل بلدة عرسال على الحدود الشرقية في العام، والاعتداء على المواقع العسكرية القريبة، بهدف السيطرة على المنطقة الممتدة من الجبال الشرقية وحتى مدينة طرابلس الساحلية. وقد كان الجيش على أهبة الاستعداد لمواجهة مثل هذه التحركات، فشنّ هجومًا موسّعًا واستأصل الإرهابيين من البلدة.
بعد ذلك، كان الجيش يضيّق قبضته على الإرهابيين بشكلٍ شبه يومي، من خلال قصفهم بالنيران الثقيلة. كما نفّذ عمليات خاصة في نطاق انتشاره، مهّدت الطريق لمعركة “فجر الجرود” في العام 2017.
كانت تلك المعركة أشبه باختبار لقدرات الجيش اللبناني، إذ شنّ سلسلة هجمات جوية وبرية ضدّ تنظيم داعش، على الحدود الشمالية الشرقية. حاصرت وحداته المقاتلين الإرهابيين الناجين في أحد الوديان بمحاذاة الحدود السورية وطردتهم من الأراضي اللبنانية.
شكّلت معركة “فجر الجرود” إحدى أكبر المعارك في تاريخ الجيش اللبناني، وقد خاضها لواءان وأربعة أفواج ووحدة عمليات خاصة. كانت التكنولوجيا الحديثة أحد أركان نجاح هذه المعركة، استخدم الجيش خلالها الطائرات من دون طيار، والأسلحة الذكية والموجهة بالليزر كالصاروخ الموجّه الأميركي Hellfire. وقد استحدث الجيش استراتيجية لدمج سلاحَي الجو والمدفعية وإطلاق القذائف المدفعية copperhead من عيار 155 ملم التي كانت هبة أميركية للجيش، وشكّلت السلاح السري في هذه المعركة. تمكّن الجيش في النهاية من استرجاع جثامين عسكرييه الذين اختطفهم الإرهابيون منذ العام 2014 على الحدود السورية.
إن الجيش اللبناني هو الأول بين جيوش المنطقة الذي حقق الانتصار – وحيدًا – على تنظيم داعش. ولكن، على الرغم من هذا الانتصار الكبير، لا يزال خطر الإرهاب يحدق بلبنان، ويواصل الجيش مراقبة الخلايا الإرهابية ورصدها، وينفّذ العمليات العسكرية الأمنية الاستباقية للقضاء عليها في بداية مراحل تكوينها.
خسر الجيش 230 شهيدا خلال هذه المعارك التي ذكرناها.
ممّا لا شك فيه أنّ النجاح في مكافحة الإرهاب يعود للمهارات القتالية والمعنويات العالية التي يتمتّع بها عناصر الجيش اللبناني، بالإضافة إلى الإرادة القتالية، وتأييد الشعب له ونبذه للإرهاب والتطرّف. ولا ننسى الدعم النوعي الذي تقدّمه الدول الصديقة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي ساهمت في تحديث الجيش كقوة مقاتلة، وفي تطوير قدراته.
إنّ قوة الجيش اللبناني، والثقة المحلية والدولية في دوره الوطني، هي نتيجة لتفانيه في مهمّته العسكرية والوطنية ولإيمانه بتطلعات شعبه. كذلك، فإن الدعم النوعي والكبير الذي توفّره الدول الصديقة وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية، له دور في مدّ لبنان أكثر بالقدرة على الصمود وتعزيز الاستقرار الإقليمي والدولي.
العماد جوزاف عون
قائد الجيش اللبناني
التعليقات مغلقة.