أسرة يونيباث
شكَّل وصول البابا فرنسيس إلى العراق في آذار/مارس 2021 نقطة مشتركة تجمع العراقيين بجميع طوائفهم وأعراقهم؛ وقد تحدثت مجلة يونيباث مع اللواء سعد معن، مدير خلية الإعلام الأمني العراقية، حول أهمية زيارة البابا لأمن العراق.
يونيباث: ما أهمية زيارة البابا التاريخية للعراق؟
اللواء سعد معن: شهدت زيارة قداسة البابا فرنسيس للعراق استقبالاً باهراً لم يقتصر على المواطنين المسيحيين فحسب، بل شاركهم الفرحة والاستقبال كافة أطياف وقوميات الشعب العراقي. وإنَّ زيارة قداسة البابا حدثاً تاريخياً مهماً؛ لأنها كانت أول زيارة يقوم بها بابا الفاتيكان منذ جائحة كورونا (كوفيد- 19)، وهي أيضاً الزيارة الأولى التي يقوم بها قداسة البابا لمدينة أور التاريخية جنوبي العراق. فمدينة أور مدينة مقدَّسة وذات أهمية كبرى للحضارة الإنسانية، بناها أجدادنا السومريون في القرن 26 قبل الميلاد، وكانت حجر الأساس لحضارة بلاد وادي الرافدين التي تعتبر مهد الحضارات، وهي مسقط رأس أبي الأنبياء نبي الله إبراهيم الخليل (عليه السلام)؛ وبالتالي كانت زيارة قداسته للعراق تأكيداً للعالم بأنَّ هذه الأرض المباركة هي منبع جميع الأديان السماوية وأرض التعايش السلمي بين البشر. وكان لهذه الزيارة مردود إيجابي على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
يونيباث: ماذا تعني للعراقيين زيارة البابا وإقامة القدَّاس في اكنيسة سيدة النجاةب التي تعرَّضت لهجوم إرهابي وحشي سابقاً؟
اللواء سعد معن: إنَّ إقامة القدَّاس في «كنيسة سيدة النجاة» وسط بغداد أعطى صورة حقيقية لواقع العراق وانتصار الحق على الباطل وانتصار السلام على الإرهاب. كما أنها رسالة للعصابات الإرهابية تفيد أنَّ العراقيين خبروا التعايش السلمي منذ آلاف السنين ولا يمكن هزيمتهم أمام الفكر الظلامي. كلنا يتذكر الهجوم الإرهابي على «كنيسة سيدة النجاة» في عام 2010، الذي كان يُراد به إشعال حرب بين المسلمين والمسيحيين في العراق ومصر لتعم كل دول المنطقة؛ إذ طالب الإرهابيون في اتصال هاتفي بإحدى الفضائيات بإطلاق سراح محتجزة مصرية في الكنيسة القبطية، وكان المتصل يتحدث اللهجة المصرية؛ ولا شك أنها قضية افتعلها الإرهابيون لإشعال الفتنة الطائفية. فقد اقتحمها خمسة انتحاريين من تنظيم دولة العراق الإسلامية الإرهابي في أثناء القدَّاس، وكان في نيتهم قتل المصلين ونشر المشاهد الدامية على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي فيما كان العراق يستعد لاستضافة مؤتمر القمة العربية. بيد أنَّ شجاعة القوات الأمنية أفشلت مخطط الإرهابيين واستطاعت تحرير معظم الرهائن بعد استشهاد نحو 50 مواطناً في هذا الهجوم الوحشي.
وقد جاءت زيارة قداسته لتؤكد للعالم أنَّ العراق آمن وأنَّ «كنيسة سيدة النجاة» دحرت الإرهاب وما زالت أبوابها مفتوحة للمصلين. وكان عمل القوات الأمنية والمواطنين رائعاً لإنجاح القدَّاس في الكنيسة التي كانت تحوم في سقوفها أرواح الشهداء الأبرار محتفية بوجود قداسة البابا. وقد حضر الكثير من المسلمين القدَّاس ليعبروا عن دعمهم لإخوانهم المسيحيين وليرحبوا بضيف العراق الكبير وصديق السلام؛ فلهذه الكنيسة التاريخية رمزية كبيرة عند العراقيين، إذ يقصدها الناس من جميع الطوائف لإيقاد الشموع والتمتع بسكينة وقدسية المكان.
يونيباث: كيف استقبل العالم زيارة البابا لمدينة الموصل علماً بأنَّ داعش كان قد أعلنها عاصمة له قبل طرده منها؟
اللواء سعد معن: لقد استقبل العالم هذه الزيارة بارتياح كبير وبأمل في مستقبل واعد للعراق والمنطقة؛ فقد استقبل أهل الموصل البابا بالصلوات وزغاريد الفرح في منطقة «حوش البيعة» التي شهدت دماراً كبيراً على أيدي داعش. فلقد كان العراق يتصدَّر نشرات الأخبار العالمية والعربية حول الأحداث الدامية والتفجيرات، ولأول مرة منذ سنوات يظهر اسم العراق بخبر مفرح خالي من الحروب والقتال والإرهاب، ولأول مرة يتوحد العالم بنقل أخبار إيجابية عن العراق؛ وقد كان هذا مبعث فخر لكل العراقيين سواء أكانوا في الداخل أم في الخارج، ولا سيما أنَّ مدينة الموصل العزيزة عاشت فترة مظلمة ودموية لمدة سنتين تحت سطوة أعتى العصابات الإرهابية؛ فقد هدموا الآثار وحرقوا البيوت وهجروا الأقليات، ودمر داعش 14 كنيسة في هذه المدينة، سبعة منها تعود إلى القرن الخامس والسادس والسابع الميلادي.
فقد كانت الموصل قبل أن تتعرَّض لحكم إرهاب داعش «أم الربيعين»؛ أرض التعايش السلمي، حيث يبدأ الصباح بدق أجراس الكنائس وتصدح حناجر المؤذنين من المنائر مبشرة بحلول وقت الصلاة. ولكن تبدَّد ذلك الحلم الجميل عند اجتياح داعش للموصل، إذ قتلوا الأطفال واستباحوا حرمة إخواننا الإيزيدية واعتبروا نساءهم سبايا، وأخذت عصابات الإرهاب تقتحم البيوت بنفس الطريقة النازية وكتابة حرف «ن» [إشارة للنصارى] على جدران منازل المواطنين غير المسلمين، ممَّا زرع الرعب في قلوب السكان وبدأ الناس يتركون ممتلكاتهم ويهربون خارج الموصل. ولم يطق المسلمون العيش في كنف هذا الإرهاب الذي طال أخوتهم وجيران طفولتهم، فقرروا الهروب أيضاً. فقد حوَّل الإرهاب هذه المدينة الجميلة إلى خرائب وأنفاق ومبانٍ مهدَّمة، ولم يسلم من إرهابهم حتى جامع الحدباء [النوري] الأثري. كل هذه الأحداث جعلت زيارة قداسة البابا مهمة لزرع الطمأنينة في قلوب سكان الموصل الذين ما زالوا يعيشون بعيداً عن بيوتهم، ورسالة للعالم بأنَّ الإرهاب بات مهزوماً مدحوراً في «أم الربيعين». وشاهد العالم أجمع إقامة القدَّاس وسط الموصل على أطلال إحدى الكنائس التي دمرها داعش. وبرأيي الشخصي، إنَّ ما جعل زيارة قداسته للموصل متميِّزة هو كلماته التاريخية التي دعا من خلالها المسيحيين إلى العودة إلى المدينة؛ فقال مخاطباً العالم: ”نؤكد قناعتنا بأنَّ الأخوَّة أقوى من صوت الكراهية والعنف“، و “يجب تجاوز الانتماءات الدينية للعيش بسلام ووئام”، و “من المؤسف أنَّ بلاد الحضارات تعرَّضت لهذه الهجمة الإرهابية.”
يونيباث: ما الأجهزة الأمنية العراقية التي شاركت في توفير الأمن لزيارة البابا؟
اللواء سعد معن: قيادة العمليات المشتركة هي التي خططت لحماية الزيارة ووزعت الأدوار على الأجهزة الأمنية؛ لأنَّ القيادة تمتلك غرفة عمليات متقدمة وتضم جميع الأجهزة الأمنية وتمتلك صلاحيات للتنسيق مع بقية الوزارات ويشرف عليها معالي رئيس الوزراء شخصياً. وطبعاً كان لوزارة الداخلية الدور الأكبر؛ لأنَّ واجبات الوزارة بدأت منذ وصول البابا إلى المطار وتوفير الأمن للموكب في بغداد والمحافظات. ولكن اشتركت في هذه الزيارة التاريخية كل المؤسسات الأمنية والمدنية، وكانت خطة ناجحة جداً؛ وأود أن أعرب عن فائق شكري لجميع القادة الأمنيين على دورهم في إنجاح هذه الزيارة التاريخية، إذ عمل الجميع بكل تفانٍ وبروح الفريق الواحد؛ لأنَّ زيارة البابا فخر للعراق بأجمعه، ولأنَّ نجاح الزيارة دون أي خروقات أمنية يدل على أنَّ الأجهزة الأمنية العراقية قادرة على توفير الحماية وبسط الأمن في البلاد.
يونيباث: يعيش آية الله علي السيستاني في الجزء القديم من مدينة النجف (أي محلة العمارة)، حيث الأزقة ضيقة للغاية بالنسبة للمركبات، فكيف استطعتم تأمين المنطقة المجاورة؟
اللواء سعد معن: تتصف محافظة النجف الأشرف بالطبع بأنها واحدة من أأمن المدن في العالم؛ لذلك لم نواجه أي مشكلة في تأمين زيارة قداسة البابا لسماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني حفظه الله. لكن الأجهزة الأمنية وضعت خطة مفصلة لتأمين الزيارة خاصة داخل الأزقة القديمة الضيقة التي سار خلالها قداسة البابا للوصول لبيت سماحة السيد السيستاني، إذ كان الارتياح واضحاً على ملامح قداسة البابا وهو يسير في تلك الأزقة التي تدل على تواضع سماحة السيد السيستاني وزهده. وكنا نتابع خطوة بخطوة الموقف الأمني في المدينة، حيث كان هناك استطلاع جوي وسيطرة مركزية من غرفة عمليات قيادة القوات المشتركة لكل الطرق والبنايات المؤدية لبيت سماحة السيد السيستاني حفظه الله.
يونيباث: هل كان في حساباتكم أي تهديد أمني لاستهداف قداسة البابا من قبل داعش ووضعتم خططاً لإحباطها؟
اللواء سعد معن: بالتأكيد عندما يكون لديك زيارة لشخصية مهمة مثل قداسة البابا والتي كان مخطط لها أن تشمل بعض المناطق الشعبية والبعيدة عن المقرات الحكومية، فلا بدَّ أنها ستكون هدفاً مغرياً لعصابات الإرهاب التي تحاول تقويض الأمن. فنحن نعلم أنَّ الإرهاب يحاول رسم صورة مشوَّهة للعراق ويغتنم أي فرصة لارتكاب جريمة إرهابية – مهما كان الثمن – لإحراج الحكومة وإرسال رسالة للعالم بأنَّ العراق بلد غير مستقر؛ ولذلك كان يجب وضع حسابات دقيقة لكل الاحتمالات ضمن الخطة الأمنية، ونحن في العراق لدينا خبرات ميدانية متراكمة في محاربة الإرهاب، وكان القادة الأمنيون دقيقين جداً بوضع تفاصيل الخطة في تأمين الطرق والمباني واستنفار الجهد الاستخباري وتوظيف التقنيات الحديثة للرصد والمتابعة، وتمَّ رسم خطة تحتوي على عدة أطواق ومراحل؛ والحمد لله كانت خطة موفقة.
يونيباث: ما التحديات الأمنية التي واجهتها القوات الأمنية خلال الزيارة؟
اللواء سعد معن: كانت زيارة قداسة البابا للمدينة القديمة في الموصل بمثابة تحدٍ كبير، حيث وجود الخلايا النائمة ووعورة الطرق بسبب الدمار الكبير الذي حلَّ بالمدينة، والمكان الذي اُختير لإقامة القدَّاس مفتوحاً، وتطل عليه مبانٍ وخرائب عديدة، وعدم وجود طرق بديلة للوصول للمكان تجعل عملية تأمين المنطقة معقدة جداً. كما كانت زيارة البابا لكنيسة سيدة النجاة وسط العاصمة المزدحمة بمثابة تحدٍ كبير، إضافة إلى زيارة مدينة أور في محافظة ذي قار التي كانت تشهد اضطرابات أمنية بسبب المظاهرات ووجود حكومة محلية مؤقتة استلمت مسؤوليتها قبل أسابيع من زيارة البابا. وكل ذلك جعل وضع خطة أمنية محكمة شبه مستحيل. ولكن بفضل مهنية قواتنا الأمنية والجهد الاستخباري المتميِّز والعمل بروح الفريق الواحد ضمن القوات المشتركة وتعاون المواطنين ودعمهم للقوات الأمنية تجاوزنا كل التحديات الأمنية ونجحنا في تأمين هذه الزيارة التاريخية.
يونيباث: كم استغرقتم من الوقت في التحضيرات للخطة الأمنية وإكمالها؟
اللواء سعد معن: برغم التحديات الأمنية التي يشهدها العراق واستمرار العمليات العسكرية لملاحقة فلول الجماعات الإرهابية في صحراء الموصل ومرتفعات حمرين، فقد تمكنا من إكمال الاستعدادات في غضون أسابيع قبل الزيارة. وكذلك نفذنا تمارين ميدانية واستطلاعاً للمناطق التي كان من المقرر أن يزورها قداسة البابا. والحمد لله كانت الأمور تسير بسهولة وكانت الأجهزة الأمنية تسيطر على مقاليد الأمور. وأعتقد أنَّ الخبرات التراكمية للقادة الأمنيين والعسكريين والدروس المستفادة من العمليات العسكرية والأمنية على مدى السنين الماضية صقلت خبرات قواتنا الأمنية وجعلتنا قادرين على تنفيذ مهمات متعددة في آن واحد ورفعت معنويات منتسبينا وعززت الثقة بين القادة والمراتب.
يونيباث: كيف تُقيِّم قابلية العمل المشترك لمختلف الأجهزة الأمنية العراقية في توفير الأمن لزيارة البابا؟
اللواء سعد معن: لقد أثبتت الخطة الأمنية تماسك الأجهزة الأمنية والتناغم فيما بينها والعمل بروح الفريق الواحد لتأمين هذه الزيارة التاريخية المهمة. إنَّ قواتنا الأمنية تتمتع بمرونة عالية للعمل مع بقية أجهزة الدولة؛ لا سيما أنَّ تجربة بيئة العمليات المشتركة منذ عام 2014 والعمل مع قوات التحالف الدولي أثناء معارك التحرير أضافت خبرات جمَّة لقواتنا الأمنية. ولي الفخر أنَّ أقول إنَّ التناغم والتواؤم لعملية تأمين زيارة البابا كانت في أعلى المستويات، ممَّا أكسبنا احترام وثقة الشعب العراقي والعالم الذي شاهد الأداء المتميِّز للقوات الأمنية العراقية.
التعليقات مغلقة.