التفكير القَبَلي يعيق بناء الوطن
الأمن القومي يتعزز عند تغليب الهوية الوطنية على الهوية القبلية
اللواء محمد زيد محمود إبراهيم، الملحق العسكري اليمني بالولايات المتحدة
حين بدأ الإنسان القديم رحلته باتجاه تكوين المجتمع بدأ بالأسرة مروراً بالعشيرة ثمَّ القبيلة، وكان واضحاً احتياج الفرد للتواجد داخل مجتمع إنساني يوفر له الحماية ويستمد منه القوة، بسبب المخاطر التي تلاحقه نتيجة اختلال موازين القوى في حال حاول دخول معترك الحياة بنفسه.
وتتصدَّر قوة العشيرة المشهد حين يتعرَّض أفرادها مجتمعين أو منفردين إلى خطر داهم، فتحاول الوصول لانتماء تجد فيه الأمان والطمأنينة.
إلَّا أنَّ هذه القبائل نفسها التي وفرت إحساساً بالانتماء للبشر طيلة قرون يمكن، في أكثر من بضع حالات حديثة، أن تعوق في الواقع تقدم صحة الإنسان وسعادته. ويمكن عرقلة تقدم البلدان القومية العاكفة على خدمة مواطنيها كافة حين يتقدم الولاء للقبيلة على الانتماء للوطن.
أصول القبائل
يقوم الانتماء للقبيلة على عدة عوامل مثل النسب والدين واللهجة والطائفة والمهنة وكذا الإقليم الجغرافي. ودائماً ما تحاول القبيلة الواحدة تقوية الروابط بين المنتميين لها وذلك عن طريق حصر التزاوج فيما بينهم، ممَّا يقويها ويجعل التحكم بها أسهل. وهذا ما جعل كثرة القبائل واقترابها من بعضها، مع النزعة الإنسانية تجاه الحصول على القوة والسلطة، يخلق صراعات لا تنتهي بينها، لأسباب عدة أهمها التفاخر والثأر ومحاولة بسط السلطة والحصول على الثروة.
ولكن تندلع الحروب بينهم لأتفه الأسباب، وأي اعتداء من قبيلة أخرى، سواء أكان هذا عملاً فردياً أم جماعياً، يعد بمثابة إهانة لكل الأفراد المنتميين لهذه القبيلة أو تلك. وهكذا تستمر المعارك والصراعات في دائرة لا يمكن الهروب منها.
ولذلك فإنَّ الهدف الأسمى الذي انطلقت منه الرسائل السماوية والعلوم السياسية، كان خلق إطار واحد لمنظومة تحتوي على الأفراد بحيث يتخطى حاجز القبيلة الواحدة ويجمع كل الطوائف المختلفة.
القبلية تعترض الحداثة
نشاهد اليوم تغيرات جذرية في المنطقة العربية على يد جماعات لا تزال تناهض مفهوم «الدولة القومية». كما نشاهد صعود بعض الأنظمة الاستبدادية في بعض الدول العربية. وبذلك تدفعنا الفوضى التي ضربت المنطقة من ثورات وانقلابات وحروب.
ويحدث ذلك تزامناً مع كل ما يطرأ على الدول الوليدة من تغيرات لمحاولة دمج قيم المواطنة مع دور المؤسسات التقليدية كالقبيلة التي تعمل على توفير النظام والتماسك الاجتماعي.
ولا ينبغي أن يحدث صراع بين قيم المواطنة وقيم القبائل؛ إذ يعتقد البعض في الواقع، من منطلق المفكر «توماس بين» وهو فيلسوف بريطاني المولد من أبناء القرن التاسع عشر، أنَّ الشطر الأكبر من النظام السائد بين البشرية ليس ثمرة الحكومة وإنما ينشأ من أصول المجتمع والتكوين الطبيعي للناس.
فقد ذكر بين في كتابه الشهير «حقوق الإنسان» أنَّ “النظام تقدَّم في وجوده على الحكومة، وسيوجد حتى لو تمَّ إلغاء شكل الحكومة؛ ذلك أنَّ اعتماد الناس بعضهم على بعض.. يخلق تلك السلسلة العظيمة من الاتصال.. فالمجتمع يكاد يحقق لنفسه كل شيء دون حاجة للحكومات.”
استغلال القبلية في اليمن
ولعلَّ من بين أهم التحديات التي تتعرَّض لها الدول هو توظيف القبيلة في الصراع؛ ممَّا استلزم استخدام الإعلام للتلاعب بأفراد القبيلة. وهكذا يجد اليمن نفسه أمام تضخيم مبالغ فيه عن طريق وسائل الإعلام الاجتماعي وغيرها لتواجد القبيلة وتأثيرها في الأحداث، وتارة أخرى يتم تقزيم ذلك التأثير تماشياً مع غايات المتلاعبين. وقد دأبت الأنظمة السياسية الحاكمة والنخب المؤثرة في المجتمعات على تأجيج القبلية لخدمة مصالحهم.
ويمكن أن تكون هذه القبلية مدعاة للقلق حين اكتشف اليمن أنَّ سكانه المسالمين كانوا يمتلكون بالفعل 60 مليون قطعة سلاح، بعضها استخدم في الصراع الراهن.
مستقبل القبائل
يُقاس حراك المجتمعات بالأجيال، ولا يمكن الحكم على حراكها في فترات زمنية ضيقة؛ ولذلك يجب إعادة حراك تلك المجتمعات بشكل أدق وأعمق، كما علينا أن نتفادى الدراسات الكلية قبل بحث عناصر وأدوات وآليات حراك المجتمعات ومنها ما أسلفنا ذكره؛ ونقصد في موضوعنا هذا القبيلة كمكون اجتماعي قوي حاضر في شتى مناحي الحياة الاجتماعية، ويتكيَّف مع المستجدات وفقاً للموارد التي يكتنزها.
ويرتبط هذا الموضوع ارتباطاً كلياً بدراسة توزيع السلطة ودراسة الحجم الفعلي للسلطة التي تتمتع بها القبائل والعشائر بصورة عامة، خاصة إذا نظرنا إلى سرعة مواجهة القبائل لتلك التحولات.
ولسوف نجد أنَّ القبيلة تأثرت كسائر مكونات المجتمع بجملة التغيرات الحاصلة في المجتمع؛ فقد تغير دورها وتأثرت صورتها النمطية لدى المجتمع بشكل متفاوت بحسب طبيعة كل مجتمع.
إلَّا أنَّ التفكير القبلي يمكن أن يضر بتقدم المجتمع؛ فلكل قبيلة سلالتها، ولكل فرقة أسانيدها، لتصبح النفعية نهجاً للتفكير بآليات السياسة. هكذا يصبح عالمنا مجرد ماكينة كبيرة تعيد نفس عرض الفيلم السابق ولكن بممثلين مختلفين يؤدون نفس الأدوار؛ وتحدث نفس الوقائع ونفس النتائج، وبذلك تظل قوى أخرى خارجة عن المشهد هي المؤثرة في حياتنا سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
وهذا يدل دلالة قاطعة على أنه لا يمكن بناء الأوطان بمنطق القبيلة والعشيرة دونما الولوج إلى منطق العلم؛ فالعلم أساس السعادة والرفاهية
اللذين يجمعان البشر، وهو عمود بناء الحضارة والتقدم، وهو السبيل الوحيد للقضاء على الجهل والتخلف والفقر؛ فأهميته لا تقل عن أهمية الماء والهواء. فالعلم أساس التنوير، لا سيما أنه ينبع من طريقة تفكير الانسان. ويمكن للمجتمعات أن تسلك سبيل التطور عن طريق التخلي عن العادات السيئة
والأفكار القديمة الرجعية.
التعليقات مغلقة.