مرة اخرى وكما في كل مرة تجتمع فيها العقول العراقية مع العقول الغربية، تظهر وبشكل واضح تأثيرات اختلاف الثقافات في كل مقاربة ولكل موضوع (رغم العولمة)، كمثال حي على ذلك، سأتناول الورقة التي قدمها الصحفي الفرنسي (ميشيل سكوت) في المؤتمر الدولي الرابع لمكافحة اعلام وفكر داعش والذي عقد في بغداد في الفترة 20 – 22 شباط 2019، والتي لم تنل برأيي الاهتمام الكافي من المستمعين بسبب ضعف الترجمة اولا، وبسبب الاختلاف الثقافي ثانيا.
حيث ان (ميشيل سكوت) يمتلك الشرعية الكافية لتناول موضوعة الحرب والارهاب والتطرف، بسبب خبرته المتراكمة طيلة خمسة وعشرون عاما في التغطية الصحفية للحروب في كل انحاء العالم، مدركا ان المهمة الصحفية لم تعد الاخبار عن الحوادث فقط، بل التحليل الخبري لتعليم الناس ما يقع خلف الاحداث الكبرى. واي حديث عن الحرب سيقود حتما الى اثارة المعايير العالمية الاخلاقية والحقوقية المتعلقة بالعدالة وقوانين الحرب، ولهذا فان الدور الاعلامي يمكن له ان يؤدي الى تحسين الامور وقد يجعلها اسوأ، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية، معتمدا على الكيفية التي يتم الترويج فيها ونوع الخطاب والسرد. هذه المهمة الحساسة والضرورية اصبحت اكثر تعقيدا في وضع بات التطرف فيه جزءا من البيئة العقلية للناس، فالفرنسيون اليوم مصدومون ليس بسبب التحاق المئات منهم بداعش فقط، ولكن لان خطابات هؤلاء الارهابيين من الناطقين بالفرنسية كانت الاشد شناعة والاكثر راديكالية مقارنة مع الاخرين. فلابد والحال هذه ان خللا كبيرا قد وقع، يتحمل الاعلام جزءا كبيرا منه، بسبب طبيعة مقاربته في تناول الأحداث الارهابية، وأهم تلك الاخطاء:
الاكتفاء بذكر الحوادث الآنية دون القيام بشرح وبيان آثارها على المدى البعيد.
التركيز على اجزاء معينة من الاخبار وترك المفاصل الاخرى من الحقيقة.
في سياق هذا الطرح، حاول (سكوت) تسليط الضوء على ولفت الانتباه الى مشكلة معقدة، تتعلق بعوائل الدواعش من (النساء والاطفال)، من الذين يحملون جنسيات اجنبية وتحديدا من الجنسية الفرنسية… من خلال طرحه لجملة من الاسئلة، أهمها:
هل يستحقون العودة الى اوطانهم؟
هل لديهم اية حقوق؟
هل لازالوا فرنسيين؟
كيف يجب تصنيفهم؟
وبتحليل بسيط لطبيعة هذه الاسئلة وغيرها، نلاحظ ان الاهتمام لا ينصب حول ما فعلت تلك النسوة بقدر ما تبقى لهن من حقوق!!! وهذه مقاربة من نوع آخر، قد يفهمها الفرنسي او الغربي المتشبع بقيم الحرية وحقوق الانسان، لكنها تصعب على من عانى كثيرا من جرائم داعش وعلى مدى سنوات عديدة. فـ (ميشيل سكوت) يطالب بمحاكمات تاريخية كمحاكمة نورمبيرغ للحكم في قضية تحتاج في رأيه الى المنطق السليم وكشف المزيد من الحقائق التاريخية والتي من شانها ان تفسر في النهاية الكثير من كل هذه الوحشية التي امتازت بها داعش. فجوهر الموضوع لا يتعلق بتسمية الشر، بل في الكشف عن ماهيته. وهذه ايضا مقاربة اخرى مختلفة، قلما يتم استخدامها في بيئة تتجنب الحديث عن الحقيقة في اغلب الاحيان. ففي سبيل ذلك كله ومن اجل تحقيق العدالة طالب (سكوت) بالابتعاد عن التوصيفات الجاهزة والحديث العمومي عن التطرف والارهاب والايديولوجية، فما هو مطلوب اليوم اتباع نوع جديد من التفكير قادر على فك الالتباس لبيان اسباب الانحراف الفكري الذي انتج داعش، ولإحداث نوع من التطور الاساسي للعقل في مواجهة الارهاب، فالمصلحة والعقلانية تقتضيان العمل من أجل تفكيك الاشتباك بين الارهاب والاسلام، للتقليل من حجم الكراهية للدين الحقيقي، متذكرين دائما ان أكثر ضحايا الارهاب الداعشي كانوا من المسلمين، ولا يهم حينها ان كانوا شيعة ام سنة ام من الكورد.
التعليقات مغلقة.