يجب على التحالف عدم التغاضي عن الأسباب النفسية الذي تدفع للتطرف
أ.د. قاسم حسين صالح/ مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية
لايعنينا هنا إن كانت (دولة الخلافة الاسلامية في العراق والشام – داعش) صناعة عربية، إقليمية، دولية؛ لكنها أثارت الكثير من الأسئلة حول أسباب سقوط الموصل. تحدث عن داعش خبراء استراتيجيون بقراءات عسكرية وأمنية وسياسية، ولم تتوصل لجان نيابية لفك شفرتها. ولا يعنينا رأي السياسيين، لكونه يركّز فقط على هدف الإرهابين المتمثل باسقاط الحكومة والاستيلاء على السلطة، ويمر عابراً على الأسباب التي دفعت داعش إلى هذا السلوك المتطرف في العنف. فما يهمنا هو المفقود في مواجهتها انطلاقاً من مبدأ في الحرب هو (إعرف عدوك)؛ وتحديداً معرفة تركيبة وسمات الشخصية الداعشية بمنهج أكاديمي.
كنا أشرفنا على أطروحة دكتوراة بجامعة السليمانية تعدّ الأولى عربياً وعالمياً من حيث عدد المبحوثين البالغ (300) مداناً بجرائم إرهابية في السجون العراقية من عشرة بلدان عربية، إضافة الى العراق وثلاثة بلدان أجنبية (فرنسا، إيران، روسيا)، وعدد ونوعية الاختبارات والاستبانات التي جرى تطبيقها عليهم. وكان أحد اهدافها معرفة ما إذا كانت الشخصية الإرهابية غير سوية (مرضية) وفقاً لمصطلحات الطب النفسي؛ أم أنها شخصية سوية بدليل أن بين الارهابيين أفراداً حاصلين على شهادات دراسية عليا، آخرهم (ابو بكر البغدادي) الحاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة عراقية.
شخصية مركّبة
الحقيقة العلمية هي أن شخصية الإرهابي، مركّبة تجمع في خصائصها بين خمس شخصيات مصنفة على أنها مضطربة (غير سوية) هي:البارانوية، النرجسية، الوسواسية القهرية، الشخصية من النمط الفصامي، والشخصية المعادية للمجتمع.
والمشكلة في الشخصية البارانوية أن صاحبها يشعر بالإضطهاد، ويرى أن حقوقه مهدورة، فيكون مستعداً للقتال من أجلها، ولديه حقد مستديم، ورفض للتسامح، لأن صفة العدائية متحكمة فيه. ويتفق علماء النفس على أن بداية تكوينها، هي نشوء معتقدات وهمية لدى الفرد، تقوى بمرور الزمن لتصبح لديه وكأنها حقائق واقعة. يؤكد هذا الاستنتاج أن الارهابيين كانوا قد تلقوا هذه المعتقدات من شخصيات دينية لها تأثير فيهم، وأنها لاقت قبولاً لديهم، لأنهم كانوا قد تعرضوا لاضطهاد وتحقير وإهانات أسرية ومجتمعية.
و(الإرهابي) يعتقد أنه على حق وأن الآخرين على باطل، ويتصف بالعجرفة والتعالي، والشعور بعظمة أهمية ذاته، وأنه يستحق الصدارة والأفضلية على الآخرين. ولقد تفاعلت هذه الصفات النرجسية مع صفاته البارانوية مما نجم عنها تثبيت معتقداته الوهمية وتعزيز صفتين من الشخصية الفصامية هما: افتقار تفكيره إلى المرونة والتبصّر، وسيطرة أفكار بخصوص الانتحار، وصفة من الشخصية المعادية للمجتمع، هي عدم الشعور بالذنب عند إلحاقه الأذى بالآخرين.
إن الشخصية الداعشية هي خلاصة مركّزة للشخصية الإرهابية وتستقطب كل صفاتها مع تغيير في الهدف هو تبني استراتيجية القضاء على الشيعة في العراق تحديداً، والسنة المشاركين في الحكومة العراقية بعد أن كانت “محاربة الغرب الكافر.” وبحسب وكالة رويترز، أفاد مركز سايت الذي يتابع المواقع الاسلامية على الانترنت أن فرع تنظيم الدولة الاسلامية في المملكة العربية السعودية يقول إنه يرغب في تطهير شبه الجزيرة العربية من الشيعة وحث الشباب في المملكة على الانضمام اليه. وتباهى التنظيم بإعلان مسؤوليته عن تفجيرين انتحاريين في 22 و 29 مارس 2015 بمسجدين للشيعة بشرق السعودية، وأمر أتباعه في كل مكان بقتل “أعداء الاسلام” وخاصة الشيعة. ووصف أبو بكر البغدادي العائلة الحاكمة في السعودية بانهم “كلاب الحراسة” للغرب واسرائيل وقال إن أعداء الاسلام ومن بينهم الشيعة “حلفاء للشيطان.”
قصور التحليل السياسي
النقطة الخلافية بيننا (علماء النفس والاجتماع) والسياسيين أنهم يشخصّون الخلل في الانتحاري الارهابي بخطر الاستيلاء على السلطة عن طريق العنف، فيما نشخصّه نحن كعلماء نفس في المعتقد الذي يحمله في رأسه ويسوقه إلى تحقيق هدفه. فنحن نرى أن السلوك، أياً كان نوعه: —عبادة، قتل، تطرّف، تسامح— ناجمٌ عن فكرة أو معتقد. وأن اختلاف الناس في أفعالهم ناجم أساساً عن اختلافهم في الأفكار والمعتقدات التي يحملونها.
إن كلّ المنتحرين يقدمون على الانتحار اخلاصاً لمعتقد يؤمنون به. ولا اختلاف بين الطيارين اليابانيين الذي انتحروا بضربهم البارجات الأمريكية الحاملة للطائرات وتفجيرها بطائراتهم؛ وبين انتحاري إرهابي يفجّر نفسه بين الناس. فالفعل هو انتحار، والفرق يكمن في نوعية المعتقد الذي يدفع صاحبه إلى الانتحار. فهو عند الطيارين اليابانيين كان من أجل الوطن. فيما يرتبط معتقد الانتحاري الإرهابي بالحاق أكبر الأذى بالآخرين. ولهذا علينا أن نجيب على السؤال التالي:
كيف تشكّل هذا المعتقد لدرجة أنه يجعل الفرد يستسهل إفناء نفسه والآخرين بعملية قتل بشعة؟
إن الانتحاري الإرهابي هو صناعة عربية، والمصدر الأول في تشكيله هو السلطة العربية، وإنه ابنها بامتياز. ولا يعود هذا لظلم السلطة بالدرجة الأولى؛ بل لانعدام العدالة الاجتماعية المتمثل بثراء فاحش ورفاهية خرافية تتمتع بها قلّة وحرمان تعاني منه الأكثرية، مما أفضى إلى اغتراب بين المواطن العربي وسلطته. وما لا يدركه كثيرون أن الاغتراب، فضلاً عن كونه حالة مأزقية بين الفرد والسلطة، فإنه يحسس صاحبه بأن وجوده لا معنى له وأنه يعيش حياة بلا هدف.
ولأن الحاكم العربي تتحكم به سيكولوجيا الخليفة — التي يرى فيها نفسه امتداداً للخليفة من 1400عاماً، ولأنه استفرد بالثروة لضمان ديمومة سلطته—، فإن بين المغتربين عن السلطة العربية من راح يبحث عن سلطة أخرى يجد فيها لوجوده معنى ولحياته هدفاً، فوجدها في (القاعدة ثم في داعش) بعد أن زين له من يراهم قدوة أنه سيكون بين هدفين لا أروع منهما: إما أن يفوز بتحقيقه دولة إسلامية يكون فيها أميراً، وإما أن يموت ويفوز بالجنّة: في حياة أبدية بها ما لذّ وطاب وحور عين وولدان مخلدون بخدمته. ولهذا فهو يستعذب انتحاره لأنه مؤمنٌ إيماناً مطلقاً بمعتقده الذي لا أروع وأكرم وأعظم منه في نظره.
ولم تستطع أمريكا وحلف الناتو القضاء على الإرهاب، لأن السلطة العربية (ولادّة) لانتحاريين إرهابيين يعدّون الحياة أمراً تافهاً إزاء حياة أبدية في جنّات النعيم، ويعدّون النيل من حاكم يعيش حياة الأباطرة فيما هم غرباء.أذلاّء في وطنهم.قصاصاً عادلاً وأمراً جهادياً.
