30 عاماً من الشراكة
البرامج الكازاخية والأمريكية للتخاص من أسلحة الدمار الشامل تنجح في تنظيف مواقع النفايات النووية والبيولوجية
وكالة الدفاع الأمريكية المعنية بخفض التهديدات
بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991 وانسحاب روسيا المتسرع، واجهت حكومة كازاخستان الجديدة تحديات جسام في تعاملها مع الاستصلاح البيئي، وإغلاق منشآت أسلحة الدمار الشامل الخطيرة، والمشاكل الصحية التي سببتها لشعب عانى ماعانى من تخزينها واختبارها طيلة 40 سنة.
وما لبثت كازاخستان أن أدركت حجم هذه المشاكل، فاستنجدت بالولايات المتحدة والمجتمع الدولي. دامت هذه الشراكة والتعاون ما يزيد على 30 سنة، وكانت كازاخستان أول من يمهد الطريق للتوقيع على اتفاقيات دولية لمنع انتشار الأسلحة النووية، ثم تصدرت العالم في مجال منع انتشار الأسلحة النووية حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم.
استمرت تلك الريادة في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر 2023 عندما سافرت السيدة ريبيكا هيرسمان، مديرة وكالة الدفاع الأمريكية المعنية بخفض التهديدات، والسيد كينغستون ريف، نائب مساعد وزير الدفاع لخفض التهديدات والحد من التسلح، إلى كازاخستان للقاء مسؤوليها والاحتفال بمرور 30 عاماً على التعاون بين البلدين في مجال منع انتشار الأسلحة النووية.
وتضمنت فعاليات اللقاء مناقشات أجراها المسؤولون الأمريكيون مع
وزارات الصحة والزراعة والطاقة والحرس الوطني والمركز النووي الوطني في كازاخستان للإشادة بكازاخستان لدورها الريادي في قضايا منع انتشار الأسلحة النووية في العالم.
ووقعت هيرسمان مذكرات تفاهم جديدة مع كل من الحرس الوطني وقيادة المركز النووي لتقنين الأهداف والتوقعات المشتركة لمواصلة التعاون في مجال الأمن النووي بموجب الاتفاقية الشاملة بين الولايات المتحدة وكازاخستان.
مشكلة النفايات النووية
كانت كازاخستان تعج قبل إعلان استقلالها في عام 1991 بجزء كبير من القوات النووية والتقليدية الاستراتيجية للاتحاد السوفييتي، وأجرى السوفييت منذ أواخر أربعينيات القرن العشرين ما لا يقل عن 456 اختباراً وتجربة نووية في موقع سيميبالاتينسك للتجارب النووية في كازاخستان.
إضافة الى تلك المنشآت، ورثت كازاخستان مصنعاً لإنتاج الأسلحة الكيميائية في بافلودار ومصانع ومنشآت للأسلحة البيولوجية في ستيبنوغورسك وألماتي.
وكان بها أيضاً مصانع ومواقع أخرى متخصصة في استخراج المعادن الاستراتيجية وتنقيتها وتصنيع الأسلحة التقليدية، وكان السوفييت يتكتمون على كل شيء، فلم يكن أي من المسؤولين الحكوميين الكازاخيين يعرف حجم هذه المشاريع الصناعية العسكرية المخصصة لأسلحة الدمار الشامل ولا منشآت الاختبارات العسكرية ولا نطاقات الأسلحة.
وعقب إجراء التجارب النووية على مدار 40 سنة، وقع الرئيس نور سلطان نزارباييف، زعيم كازاخستان بعد استقلالها آنذاك، على معاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية (ستارت) ومعاهدة منع الانتشار النووي، وأنشأ وكالة الطاقة الذرية بكازاخستان؛ وكُلفت هذه الوكالة الجديدة بالعمل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة وفريقها من المفتشين والخبراء. وكانت منطقة سيميبالاتينسك تضم 1.3 مليون نسمة، عانى نحو 30,000 منهم من التعرض للإشعاع بسبب التجارب النووية السوفيتية. واستنجد الرئيس نزارباييف بالمجتمع الدولي لحل هذه الأزمة البيئية والصحية.
وكان يدرك أن إغلاق منشأة سيميبالاتينسك لا يقتصر على تدمير بنيتها التحتية القاتلة وإنهاء التجارب، بل ويشمل استصلاح الأراضي الملوثة، وإعادة زراعة التربة وتأهيل البيئة، ومساعدة أهالي المنطقة.
وعندما ترك الروس الموقع على عجل، سارعت الحكومة الكازاخية، بعد تعيين السيد فلاديمير شكولنيك رئيساً لوكالة الطاقة الذرية الكازاخية، إلى التواصل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة ووزارتي الطاقة والدفاع الأميركيتين، ودعت المهندسين النوويين والفيزيائيين الأميركيين إلى زيارة كازاخستان.
وكانت مناطق كثيرة في سيميبالاتينسك تشكل تهديداً بيئياً، مثل مجمع جبل ديغيلين. وتعرَّض كل سكان المنطقة وماشيتها للإشعاع الثانوي، وطلبت حكومة كازاخستان من وزارة الدفاع الأمريكية مساعدتها على إغلاق 181 نفقاً ملوثاً في ديغيلين والتصدي لسائر المخاطر المادية التي لا حصر لها في سيميبالاتينسك.
جهد مشترك
فوافقت وزارة الدفاع الأمريكية، وحظي المشروع المطلوب بدعم من الكونغرس الأمريكي، وكانت فائدة المشروع للجهود العالمية لمنع انتشار اسلحة الدمار الشامل تستحق التكلفة المقدَّرة لإنجازه، وأُجري في إطار استراتيجية الولايات المتحدة الأمنية الجديدة، إذ ركزت هذه الاستراتيجية على الحد من اختبار أسلحة الدمار الشامل الجديدة وتقنياتها، وصدر إذن وزير الدفاع الأمريكي لتنفيذ المشروع في مطلع عام 1995، ووقع السيد فلاديمير شكولنيك، وزير العلوم التكنولوجيا الجديدة آنذاك، على اتفاقية «التخلص من البنية التحتية للأسلحة النووية» الجديدة.
كان المركز النووي الوطني في كازاخستان مسؤولاً عن تنفيذ جميع جوانب العمل، مثل تجهيز الأنفاق، والقياس العلمي، والهدم بالمتفجرات، وإغلاق الأنفاق. واكتفى الخبراء الأمريكيون بتقديم التوجيه الفني ومراقبة الجودة واعتماد العمل المنجز.
وما لبث الوزير شكولنيك أن أوصى باستخدام مجمع جبل ديغيلين لاختبار نظام المراقبة الدولي الجديد، وكان ذلك النظام لا يزال في طور التجهيز، وكان سيتألف من 321 محطة مراقبة تقع في الدول الموقعة على المعاهدة في العالم، وستقوم هذه المحطات بجمع البيانات الزلزالية، ودون الصوتية، والمائية الصوتية، وبيانات النويدات المشعة، وإرسالها إلى 16 مختبر تحليل معتمد.
وكشفت نتائج هذه التجارب أن كازاخستان يمكن أن تكون خير مكان لرصد التجارب النووية في المنطقة مستقبلاً، فالتكوينات الطوبوغرافية والجيولوجية في شمال شرقي كازاخستان لن تقاوم الموجات الزلزالية الناجمة عن أي تجربة نووية إلا قليلاً، وبعد ذلك قام العلماء في المركز النووي الوطني في كازاخستان ومرصد لامونت دوهرتي للغلاف الجوي بجامعة كولومبيا بوضع مشروع مشترك لإنشاء ثماني محطات زلزالية عريضة النطاق يمكنها رصد الانفجارات الطبيعية والتجارية والنووية وتوصيفها. ومن المقرر أن تصبح هذه المحطات جزءاً من نظام المراقبة الدولي.
التهديد الناجم عن الأسلحة البيولوجية
كان الاتحاد السوفييتي يمتلك برنامج الأسلحة البيولوجية الهجومية الأكثر تنظيماً وأشد بأساً في العالم، وبُني مجمع ستيبنوغورسك للأسلحة البيولوجية في ثمانينيات القرن العشرين، وكان واحداً من عشرات المواقع التي تديرها موسكو، وأُنتجت الجمرة الخبيثة، وحُمى الأرانب (التولاريميا)، والطاعون، والجدري، وفيروس ماربورغ، وغيرها من مسببات الأمراض بكميات كبيرة، وصارت جاهزة لوضعها في الأسلحة التي أراد السوفييت استخدامها عند نشوب الحرب.
وكان مجمع ستيبنوغورسك يتكون من 25 مبنىً على مساحة تجاوزت كيلومترين مربعين. وكان قسمٌ منها مخصصاً لإنتاج كميات ضخمة من الجمرة الخبيثة. وكان بوسع هذا القسم، عند تشغيل كل مرافقه، إنتاج 300 طن من الجمرة الخبيثة في 10 أشهر.
وظلت كازاخستان تعاني من هذا المجمع الفتاك بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وصار منع نقل الأسلحة البيولوجية إلى دولة معادية أو جماعة إرهابية من أبرز أهداف السياسة الخارجية الأمريكية بعد الهجمات الإرهابية التي استهدفت الولايات المتحدة يوم 11 أيلول/سبتمبر 2001، وأشركت حكومة الرئيس نزارباييف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في برامج تعاونية جديدة لمنع انتشار الأسلحة البيولوجية. ونُفذ أحد المشاريع الأولى بين الولايات المتحدة وكازاخستان في معهد البحث العلمي الزراعي، المعروف حالياً بمعهد أبحاث مشاكل السلامة البيولوجية، وقد كان المؤسسة الوحيدة في الدولة الجديدة التي تهتم بعلم الفيروسات البيطرية.
وأوصى الأستاذ الدكتور سعيد جبار مامادالييف، مدير المعهد، حكومة كازاخستان بأن تأخذ أمن وسلامة متحف السلالات التابع للمعهد بعين الاعتبار ضمن المشاريع المشتركة التي يمكن تنفيذها مع البرنامج الأمريكي لمنع انتشار الأسلحة البيولوجية. وبدأ العمل في المشروع الأولي في نيسان/أبريل 2000، وعكف علماء المعهد الزراعي على مدى الثلاث سنوات التالية على جرد سلالات المتحف والمعهد، وانتهوا من تطوير أنظمة أمنية جديدة وتركيبها، وأجروا تدريبات على السلامة البيولوجية للموظفين.
وبحلول عام 2000، كان مركز مكافحة الطاعون في ألماتي بكازاخستان قد أنشأ وأدام 10 محطات إقليمية و17 محطة ميدانية وتم تعيين الموظفين بها وتشغيلها، وهذه المحطات قادرة على مراقبة تفشي الطاعون في البلدات والقرى ووسط الرعاة الرحل الذين يعيشون في سهول البلاد الشاسعة. وفي إطار برنامج الحد من عوامل التهديد والاستجابة لها، كان المسؤولون الأمريكيون على استعداد لمساعدة كازاخستان على تعزيز وتحديث نظامها السلمي لمكافحة الطاعون بمعدات معملية جديدة وأجهزة كمبيوتر ومعدات للكشف عن المرض في المحطات الميدانية النائية.
وبين عامي 2004 و2005، انضمت أربعة مختبرات ومراكز طبية أخرى في كازاخستان إلى برنامج التعاون للحد من التهديدات للكشف عن عوامل التهديد والتعامل معها. ورصد العلماء الكازاخيون والخبراء البيولوجيون الأمريكيون ومديرو المشاريع متطلبات المشاريع الجديدة التي من شأنها تحديث القدرات التشخيصية لتقليل الحاجة إلى الاحتفاظ بسلالات مسببات الأمراض الخطيرة في المحطات الميدانية النائية وتكوين شبكة من العلماء المدرَّبين لمنع أي هجمات إرهابية بالأسلحة البيولوجية وكشفها واحتوائها.
وأمست كازاخستان من الدول الرائدة في التعاون مع الولايات المتحدة في هذا البرنامج الجديد. وبحلول عام 2005، وُضعت مشاريع تعاونية مماثلة وأُجري تنفيذها في جورجيا وأوزبكستان. وأفضت المفاوضات مع أذربيجان وأوكرانيا بين عامي 2005 و2006 إلى برامج جديدة لمنع الانتشار البيولوجي مع تنفيذ برامج التعاون الثنائية.
ومن أبرز هذه المشاريع هو الجهود المبذولة لتنظيف جزيرة في بحر آرال كانت تحت سيطرة أوزبكستان بعد الاستقلال، وكان السوفييت قد لوثوها بالأبحاث التي أجروها على الجمرة الخبيثة، وهي من مسببات الأمراض.
وقد بُذلت جهود جبارة وأُنفقت مبالغ كبيرة لتنظيف منشآت أسلحة الدمار الشامل التي خلَّفها الاتحاد السوفييتي وتأمينها. ولم تتحول كازاخستان، حكومةً وشعباً، في غضون 30 عاماً من ضحايا إلى أبطال في جهودهم لتأمين مواقع أسلحة الدمار الشامل السابقة وإصلاحها فحسب، بل وباتوا من رواد العالم في جهود منع انتشار هذه الأسلحة الفتاكة.
وفي أثناء زيارة وكالة الدفاع المعنية بخفض التهديدات إلى كازاخستان في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، سلط السيد كينغستون ريف، نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي، الضوء على هذه الإنجازات الرائعة.
وقال: ”إن الجهود التي بذلتها كازاخستان لنشر الأمن النووي والبيولوجي العالمي جعلت العالم أكثر أمناً وأماناً، ولكم يشرفنا أن نرى الثمار الوفيرة لشراكتنا بأعيننا وأن نناقش مجالات الاهتمام لمواصلة التعاون.“
التعليقات مغلقة.